فضيلة الأستاذ عبد الإله الشريف بن عرفة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
فَهْو الذي تَمَّ معناهُ وصورَتُه |
ثم اصطفاه حبيباً بارئ النَّسَمِ |
تمهيد:
بهذه الأبيات نستهل هذا البحث عن سيد المرسلين، وهي من قصيدة البردة لإمام المادحين شرف الدين محمد البوصيري الصنهاجي المغربي رحمه الله تعالى، وهي مناسبة للاحتفال به من ضمن الاحتفال برسول الله، احتفال بصاحب قصيدة البردة وبمن ألبسه البردة إلى يوم الناس هذا. فقد قرن مديح المصطفى بإمام المادحين وذروة سنام الشعراء العارفين.
ثم إني اخترت أن أتحدث في هذا المبحث عن الأسباب الكامنة وراء تخلف المسلمين وتقدم من سواهم، فألفيت أن الفجوة المعرفية التي تفصلنا عن الأمم المتقدمة مردها إلى الجفوة في محبة المصطفى.
بطلوع شهر ربيع الأول من كل عام يولد الإنسان من جديد، ولاشك أن الحديث عن الأمة هذه الأيام تتخلله محاذير وتخوفات مما يقع هنا وهناك من حرائق وفتن. ولعل قائلا يقول، عن أي أمة تتحدث؟ ومتى وُجدَتْ حتى نتحدث عنها؟ وهذا سؤال مَرْءٍ جريح لابد أن نعذر صاحبه عليه لأنه ما نطق به إلا من جهة اليأس من حال الأمة، وما شكّك في وجودها إلا لأنه يتمنّاها بكل ذرّة من ذرّاته. الإسلام أيها الأحباب وطن والمسلمون أمة، وسيبقى الأمر كذلك أمام العالمين، وتلك هي كونيَّتها التي نقلتنا من حضيض البداوة إلى يَفَاعِ الحضارة السَّامقة.
فما جدوى هذا الحديث في شهر المولد النبوي الشريف؟
والجواب: لقد غيَّبنا المصطفى ρ من حياتنا فغيَّبتنا الحياة عنا.
فماذا تعرف عن نبيك أيها المسلم؟
والجواب يبدأ من البداية، ونَذْكُرُ نسبَه إلى خامس آبائه، وإن ارتفعَتْ همَّتُك ارتفعْتَ بهذا النسب إلى أعلى من ذلك، وتحقَّقتَ حالا ومقالا بثناء الله على نسبه الشريف لما قال في محكم كتابه ﴿وتَقَلُّبَكَ في السَّاجِدِينَ﴾ (الشعراء، 219) أَيْ في أصلاب آبائك حتى أخرجك نبياً. وكما ورد في الحديث عن واثلة بن الأسقع أن النبي ρ قال «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (أخرجه أحمد في مسنده ج 4، ص. 107، ومسلم في صحيحه ج. 4، ص. 1782، واللفظ لأحمد).
إنه سيدنا أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وأمه السيدة آمنـة بنت وهب بن عبـد منـاف بن زهرة ابن كلاب.
نَسَبٌ كَأَنَّ عَليهِ مِنْ شَمْسِ الضُحَى |
نُوراً وَمِنْ فَلَقِ الصَّبَاحِ عَمُودَا |
ومتى بدأتَ في معرفة نسب نبيك كان أيسر لك أن تعرفه وتعرف أقواله وأفعاله وأحواله ومنهاجه، وتفرح به فرح العاشق المحب الذي يؤثره على نفسه التي بين جنبيه. ومتى تمكَّن هذا الحب في ذاتك لم تلتفت إلى هؤلاء الذين يُشَغِّبُونَ على الأمة باستئناف هذا النقاش كل عام حول شرعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. وكأنهم بذلك يسعون إلى محو ذاكرة المسلمين وتاريخهم ويدأبون على استئصال حضارتهم، وهم سَادِرُونَ في غيِّهم. تلك نابتة نبتَتْ ليس بينها وبين دين الأمة من وشائج سوى الرُّسوم، وعلى الأمة أن تربّيهم، ومن أبى وعاند يُعَزَّر ويؤدب لأنه أساء إلى الجَنَاب. ونحن لا نَرُدُّ عليهم ولا نهتبل بتشغيبهم ولا بتُرَّهاتهم، ولا نشتغل بعقائدهم الفاسدة الباطلة، لأن رَدَّ العَيبِ حيثُ يستحيلُ العَيْبُ عَيْبٌ. جَلَّ المقام وتنزَّهَ عن مُحدثات مُتَفَقِّهَةِ الزمان ومُترَسِّمَة المكان من اعتقدوا أن الدين زي وصورة، فتراهم يرسلون اللحى الموحشة، ويقصرون الجلابيب ويخالفون الناس في عاداتهم وملابسهم التي ورثوها عن آبائهم. وكما قال القائل:
وَلَيْسَ بِطُولِ اللِّحَى |
يَسْتَوْجِبُونَ القَضَا |
نعم، أنت أيها الجاهل المغرور، نحن نفرح بالمصطفى فرحاً لو رشفْتَ منه قطرة لزاحمتنا عليه بالرُّكَب في محراب المحبين، لكنك أيها الغِرُّ المسكين عاطل عن حِلْيَةِ المحبة، فاقدٌ لشهوة المعرفة، فمن أين يا ترى يظهر عليك البهاء؟ إنما أنت رجل عابس ونحن قوم لا نلقى نبينا وآله وأحبابه إلا بوجه طلق وعين دامعة وقلب رقيق. لا نعرف العُبوس، ونرى أنه مذهبُ كلّ مَتْعُوس. إنما فرحُنا بالله ورسوله. فلا تُشَغِّبْ علينا، واطرَحِ الجانب حين تكون بأعتاب الجنَاب.
وإذا ما الجَنابُ كان عظيماً |
مُدَّ منه لخادميه لِواءُ |
اسمع مقالتي أيها الغِرُّ المسكين فإني مشفق عليك، مؤثر لك على نفسي. ولو تُسْلِسُنِي القِياد لأريتُك السعادة. “عجبتُ لقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل”. فَهَلاّ فككنا أسرَك وأنقذناك من ضيق نفسك وقساوة قلبك وجفاء طبعك، فَرِقَّ معنا وادخلْ إلى حِمانا تفرح بالمصطفى وأحبابه كما نفرح. فتنال رحمة ربك ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (يونس 58).
لماذا تَصُدُّ الناس أيها المسكين عن الفرح بالمصطفى في عيد مولده؟ أما ترى الأمم يفرحون بأتفه الأشياء، فهلا سألتَ نفسك، ماذا يبقى للناس حينما نمحو كل أثر للفرح بسيدهم من حياتهم؟ فأنت أمام أمرين لا ثالث لهما، إما أن يتحولوا إلى الفرح بأشياء أخرى تنكرها وننكرها معك مما يجعل منا أمة تابعة مقلدة لأمم أخرى وثقافات أخرى، وإما أن يَدِبَّ النَّكَدُ في النفوس حتى إذا طفح الكيل ارتدَّ القوم عن هذا الدين جملة وتفصيلا والعياذ لله. وكلا المثالين موجود، وله أمثلة ونظائر رأيناها وشاهدناها. أما تدرك أيها المسكين أن الفرح لازم للإنسان، فإذا لم يفرح المرء بنبينا فرح بغيره. فهل هذا ما تريد أن ينقلب المسلمون إلى تعظيم أعياد ميلادية أخرى لديانات أو ملل أو عقائد وثنية بدأت تظهر في مجتمعاتنا؟ اِرجِعْ إلى ذاتك وراجع نفسك، فقد والله شغَّبتُم على المسلمين أيَّما تشغيب، فأنتم تحاربون كل مظاهر المحبة. وقد رأيناكم تتعمدون الانصراف أدبار الصلوات عندما يجأر الناس بالصلاة على النبي فتحملون نعالكم، وتدبرون عن مجلس هو من أفضل المجالس، ونسيتم أو تناسيتم ما قال المصطفى في حق من ذكر عنده ولم يُصَلِّ عليه. أترضى لنفسك البخل وتأبى أن تبقى مع القوم الكرام؟ خَسِئَتْ نفسٌ رَضِيَت باللؤمَ على العزة. لقد قال المصطفى «من فرح بنا فرحنا به»، ونحن نرى أن أعظم ما نلقى به سيدنا هو الفرح في مملكة الفرح، أما أنتم فقد رضيتم بعكس هذا، وزين لكم الشيطان أعمالكم، وحسبتم أنكم على الجادة. لم تفرقوا بين العبادة والعادة، فطفقتم تبدِّعون وتحرمون ما أحل الله لعباده.
هل بقي قول لقائل في فتح النقاش حول شرعية المولد النبوي بعدما شنَّع أعداء المسلمين على المصطفى وسخروا منه وسوَّدوا صحائفهم برسوماتهم الساخرة؟ إن الاحتفال بالمولد النبوي اليوم لهو سنام الشَّرف وذروة المجد. أما شرعاً، فهو الفريضة اللازمة التي ينبغي أن يقوم بها اليوم كل مسلم مؤمن في كل وقت وحين. لقد تمادى أعداء الإسلام في تبكيت المسلمين والسخرية من نبيهم. ولعَمري إن من يَدْأَبُ على القول ببدعة المولد لحليف من حلفاء هؤلاء المردة والشياطين من أعداء المسلمين. فهلا أقلعَ عن غَيِّه ورجع إلى الجَادَّة وسلك مسلك الصالحين الذين وطَّنوا النفوس على الفرح بسيد العالمين كل وقت وحين، وأجهشوا بالبكاء وضَجُّوا بالضَّراعة عسى أن يكونوا من الصالحين لحضرة المصطفى وصحبته في الأخرى، والصالحين لحضرة الله. فإياك إياك أيها المسكين أن يغيب عنك أن تماديك في التَّشغيب على من يحتفل بالمصطفى ويفرح به لهو عنوان النذالة وشارة الحرمان المزدوج. فلا أنت رأيت الخير في نفسك ولا أنت رأيته في غيرك، فأنكرت، ولا رأيَ لناقصٍ في كامِل. إنك إذا دخلت حِمَى المصطفى عليك أن تتأدَّب. فَأَنِخْ ركائبك ولا تمش إلا حافياً كما كان يفعل الأكابر كالإمام مالك رضي الله عنه الذي كان يأبى أن يمشي منتعلا في المدينة المنورة فوق أرض وطأتها أقدام المصطفىρ.
محبة النبي ρ فرض عين لأنها المظهر الأتم لمحبة الله سبحانه وتعالى. فمن أحب رسول الله أحب الله لأنه حبيب رب العالمين الذي جاء بالخير كله «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين» (صحيح البخاري ج. 1، ص.14). إن محبة النبيε من أصول الإيمان، وهي مُقارِنَة لمحبة الله عزَّ وجَلّ، فلا يُقَدَّمُ أمرٌ عليها. فاتركوا الناس يُظهرون محبَّتهم ويفرحون بسيِّدهم وسيِّد الخلق أجمعين «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (صحيح مسلم، ج. 4، ص. 1782).
النبي بشر لكنه فاق البشر لأنه حاز البها والنور الذي أضاء الله به هذا الكون فأخرجه من الظلام والتيه والشرك والكفر “قد جاءكم من الله نور وكتاب منير” (المائدة 1). وكيف تنكر نورانيته أيها الأحمق، وهذا الصخر الجامد يَشِعُّ بالنور ولا تنكر ذلك وأنت تراه صخراً؟ فانظر إلى القمر وإلى سائر الأنجم والكواكب وهي من صخر تضيء لياليك، فكيف بنور المصطفى الذي أضاء قلوب العالمين؟
وإني مشفق عليك ناصح لك مؤثر لسلامتك على هلاكك، فاستغفر ربك وقف بباب نبيك واطلب منه أن يستغفر لك عن ظلمك الذي سوَّدْتَ به صحيفَتَك. واجأَرْ بالدعاء متذللا خائفاً حائراً رَجَاءَ رحمة الله ﴿ولو أنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ (النساء 64). ولا تَفْتَرِ علينا بتقييد ما أطلقه الله، فاستغفارُه لك مستمِرٌّ إلى يوم القيامة لم ينقطع. ولا تتعلَّلْ بانتقاله، فليس لك هاهنا دليلٌ ولا شبهةُ دليل. ولأني أشفق عليك أُحيلُكَ إلى قصة العُتبي المشهورة التي أوردها البيهقي، ففيها شفاء لأسقامك ودواء لأدوائك، لكني أقرع سمعك عسى أن ينفتح قلبك بما أنشده الأعرابي عندما أتى قبر رسول الله ضارعاً:
يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالقَاعِ أَعْظُمُهُ |
فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ القَاعُ وَالأَكَمُ |
فرأى العتبي النبي في المنام وقال له: «اِلْحَقْ بالأعرابي وبَشِّرْهُ بأنَّ اللهَ قَدْ غَفَرَ لَه”. ونحن لا نستدل بالرؤيا كما قد يتبادر لفهمك السقيم فتعترض علينا وتحسبها مدخلا للإغارة علينا، لكننا قوم لا نقول بانقطاع خبر السماء بما يهبه الله لعباده الصالحين، ولا نيأس من رحمة الله، فإن شئت فآمن واستغفر لنفسك واسأل نبيك أن يستغفر لك، وإن لم تشأ فاستمر في إنكارك وغَلْوَائِك، وأغلق عليك باب الخير والفتح، نعوذ بالله من الحرمان. ولن ينفعك سوى التعلق بالمصطفى يوم تلقى ربك. وها هي المذاهب الفقهية تَحُثُّ على قراءة الآية التي ذكرنا عند زيارة المصطفى في روضته الشريفة، ولم ينكر أحد من الأئمة الأعلام ما فهمه المسلمون عبر العصور من أن النبيρ حي يرزق في قبره بحياة برزخية لا يعلم كنهها إلا الله تعالى. وأنَّى للأرض أن تأكلَ جسده الشريف؟ وفي الموضوع أخبار وأحاديث بالجملة ندعوك لمراجعتها في مظانها، ولم يَشُذ عن هذا الإجماع من علماء الإسلام عبر العصور إلا آحاد، نسأل الله لهم المغفرة والهداية لأن باب رحمة الله أوسع من ضيق عقولهم.
إن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف أيها الأحبة هو احتفال بشمول الرحمة في العالمين، واحتفال واحتفاء بالنبيρ. وقد ذكرنا أن محبته من أصول الإيمان، فمن لا محبة له لا إيمان له. وأسمى مظهر لهذه المحبة يزداد بإحياء المولد النبوي الشريف، وهو ما دأب عليه المسلمون خلَفاً عن سلف، ولم يتخلف عن ذلك إلا رهط من الناس، ونابتة نبتت في غفلة من الدهر لم يُلْقِ إليها الناس بالا حتى تمكَّنَتْ في الأرض فاستفزَّتِ المؤمنين في مشاعرهم تجاهَ نبيهم وشَغَّبَتْ عليهم أفراحهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لكن الأمة بخير وقد تنبَّهَتْ إلى خطورة هؤلاء المجرمين الذين أحرقوا تاريخ المسلمين ومآثرهم. وهاهي مئات المواقع الإلكترونية المعادية للإسلام والمسلمين تُشَكِّكُ في وجود النبي ρ وتطالبهم بالأدلة المادية على وجوده، وبعضهم يذكر أنه كان حَبْراً يهودياً، بِئْسَتِ الفِرْيَةُ ما سَوَّدُوا. وقد سار على نهجهم من أبناء المسلمين ممن غرَّتهم هذه التلفيقات السَّقيمة. وبدل أن ينتبه المنكرون إلى شناعة مخاريقهم بإنكار الاحتفال بالمولد، فإنهم اعتدوا على كثير من الآثار والمعالم التاريخية التي تركها أسلافنا رضوان الله عليهم، كما حدث أخيراً في ليبيا ومصر ومالي وغيرها. فهاهم قطاع الطرق واللصوص وتجار المخدرات أصبحوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في غفلة من الزمان، فعمدوا إلى المساجد والأضرحة لكبار العلماء والصالحين فهدموها، وإلى المخطوطات فأحرقوها. ولابد أن يُرْدَعَ هؤلاء لأنهم يُخَرِّبُونَ التاريخ والحضارة بتُرَّهاتهم وعقائدهم الفاسدة التي زَيَّنَتْ لهم الاعتداء على أولياء الله في الأرض “مَنْ عادى لي وليا فقد آذنتُهُ بالحرب”. وإن الله سبحانه وتعالى سيُدَمِّرُهُمْ كما دَمَّروا هذه الآثار والمشاهد. ثم زادوا على ذلك بأن فرَّقوا بين المرء وأخيه، والوالد وولده، والزوج وزوجته، فأصبح الناس أعداء في نفس البيت، ورفعوا السلاح في وجه المؤمنين وصَوَّبُوا الرصاص نحو صدور المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كل هذه المصائب التي عمَّتْ سببها ضعفُ الإيمان، وضعف الإيمان من ضعفِ أو انعدام محبة الله ورسوله والناس أجمعين. إنها فجوة معرفية سببها هذه الجفوة في محبة المصطفىρ.
لقد توالت حملات الإساءة إلى النبي ρ في العديد من الدول الغربية. وأعتقد جازماً أن الذي جَرَّأَ هؤلاء على هذا الفعل الشنيع هو الجرأة التي تَزَيَّى بها بعض من يُحْسَبُونَ على الإسلام على الجناب النبوي. وقد توالت المؤتمرات والندوات والاجتماعات والمنتديات التي تطالب الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية بتجريم الإساءة إلى الأديان، وتوصي تباعاً بإدخال السيرة النبوية في المناهج التعليمية والمقررات التربوية، والتعريف بالهدي النبوي، وتدريب المعلمين على تلقين السيرة النبوية للناشئة. وهي دعوات سليمة وصادقة نرجو الله أن تكلل بالنجاح لأنها وضعت الأصبع على منشأ الداء. والحقيقة أن منشأ هذه الإساءة يجد أسبابه الموضوعية لدى الغلاة من أبناء جلدتنا الذين اسْتَمْرَأُوا الحَديثَ عن الجناب النبوي وآل بيته وأزواجه وصحابته وسائر العلماء والأولياء بطريقة لم نعهدها عند الأئمة الأعلام ولا عند عامة المسلمين. فبدأوا بالتشكيك ثم انتقلوا إلى رفض كثير من الأحاديث والأخبار النبوية مما هو تراث نبوي في الأمة، حرص علماؤنا قرناً بعد قرن على تدوينه وتسجيله. فهذا الإمام البخاري واضع الجامع الصحيح قد ترك كتباً أخرى مثل الأدب المفرد، والتاريخ الكبير، والتاريخ الصغير فيها آلاف الأحاديث الضعيفة. ولم يفعل أمير المؤمنين في الحديث هذا الأمر إلا لأنه كان يعلم أن هذا من تراث النبوة الذي يجب الحفاظ عليه والاستفادة منه. ولا يعني ضعف السند تضعيفاً للفعل أو إنكاره، بل إن لكل نوع من أنواع الحديث مجاله. ثم إنهم وضعوا للعمل بالحديث الضعيف شروطاً مضبوطة منها أن يكون في فضائل الأعمال، وأن لا ينسب في ذاته إلى رسول الله، وأن لا يكون شديد الضعف، وأن لا يكون في الباب غيره، وأن لا يخالف أصلا من أصول الديانة. فحينما نُعَلِّمُ الناس هذا الحديث “إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه” فنحن نرمي تعليمهم الإتقان. أما تضعيف الحديث عند المنكرين الغلاة فيترتب عليه القول بإنكار الإتقان وتضعيفه. وهذا لم يقل به أحد إلا السفهاء مما لا حديث لنا معهم. إننا نحتاج لمثل هذا الحديث وأمثاله لنعلم الناس الإتقان، ولا نتمادى في إنكار الحديث ورفضه لأنه ليس من قسم الأحاديث الصحيحة. ومثل هذا كثير جداً، وهو ما فهمه المسلمون عبر العصور، فتجد كتاب إحياء علوم الدين لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي زاخراً بالأحاديث الضعيفة، ولا غضاضة في ذلك لأنه يعلم الناس مكارم الأخلاق، وهي الجزء الأعظم من هذا الدين العظيم. فآيات الأحكام لا تتعدى ثلاثمائة آية من أكثر من ستة آلاف آية في القرآن الكريم، وكذلك أحاديث الأحكام لا تتجاوز ألفي حديث من آلاف الأحاديث الأخرى. فهل نقصر ديننا فقط على هذا النسبة الضئيلة التي لا تتجازو 3% من نصوصنا المؤسسة؟ هذا كلام لم نسمع به، ولم يقل به إلا من شذ، ومن شذَّ شذ في النار، والعياذ بالله.
كل هذا يدفعنا إلى طرح قضية هامة هي قضية الفجوة المعرفية التي نعاني منها اليوم، وهي وراء شيوع الأفكار التكفيرية والتدميرية. ويمكن أن نسميها فيما يتعلق بالجناب النبوي بفجوة المحبة أو لنسمها جفوة المحبة. ومن مظاهرها إنكار الفرح بالمصطفى. فهناك فجوة معرفية في ثلاث اتجاهات، لابد من ردمها وشغل حيزها.
ولكي نصلح أحوالنا لابد من تركيز الكلام حول مظاهر الفجوة المعرفية.
وللحديث عن معوقات المعرفة في العالم الإسلامي بصفة عامة لابد من الحديث عن أبرز مشكلة تتعلق بالفجوات المتعددة، وفي مقدمتها الفجوة الرقمية. فمن الضروري أن يتم التعريف بها من خلال منظور الدورة الكاملة لاكتساب المعرفة والتي تشمل أربعة مهام رئيسية هي: النفاذ إلى مصادر المعرفة، واستيعاب المعرفة، وتوظيف المعرفة القائمة، وتوليد المعرفة الجديدة.
إن تناول الفجوة الرقمية يظل أمراً في غاية الأهمية لعدة أسباب رئيسة، منها أن الحديث عن الفجوة الرقمية يفتح الباب للحديث عن التنمية الاجتماعية من زاوية نظرة شاملة، وكذلك تفتح الباب للحديث عن الإصلاحات السياسية والديمقراطية وقضايا الفساد والشفافية، كما أنه يفتح الباب للحديث عن مشكلات العولمة ومساعي النموذج الليبرالي الرأسمالي للهيمنة على العالم، وتنامي الإسلاموفوبيا والكراهية ضد الإسلام.
إن مفهوم الفجوة الرقمية بين الدول الغنية والدول الفقيرة، أو لنقل بين الدول المصنعة والدول غير المصنعة من بين آليات الوصف والتحليل التي أتاحها العصر الحديث. وتنقسم الفجوة إلى مستويين اثنين:
– المستوى التكنولوجي، وينقسم بدوره إلى شقين، شق فجوة المحتوى، وشق فجوة الاتصالات.
– المستوى الموضوعي، وينقسم بدوره إلى ثلاث أنواع من الفجوات، هي: فجوة العقل، وفجوة التعلم، وفجوة اللغة. وهذه الأنواع كلها تشكل ما يمكن تسميته فجوة اقتصاد المعرفة.
وسنحاول أن نلم بهذا الموضوع ونشير إلى المشاكل والعوائق التي يعاني منها العالم الإسلامي، ثم سنقترح بعض الحلول التي نراها مناسبة لرفع هذه التحديات التي تواجهنا.
ولاشك أن طرح هذا الموضوع يفترض منا فتح الباب أمام تخصصات متعددة وعلوم متنوعة، نظراً لطبيعة الموضوع المطروق الذي يفرض على الدارس أن يبحر في عصر عالم المعلومات والاتصال الذي نعيش فيه باستحضار جملة المعارف والعلوم الإنسانية.
فجوة العقل
لقد أسقطت الثورة المعلوماتية الهائلة كثيراً من اليقينيات والصروح العلمية والفلسفية السائدة. كما حطمت الكثير من الفروق المنهجية المصطنعة التي أدت إلى خنق المعارف الإنسانية في إطار اختصاصات ضيقة، وفتحت الباب على مصراعيه أمام تداخل أنواع العلوم والمعارف في تشكيل أنساق جديدة وشبكات متنوعة من الكفاءات والمعارف. وقد حتمت هذه الثورة المذهلة على الإنسان أن يرفع التحديات الجديدة التي تواجهه بإعلان نشوء عقل جديد مقابل أنواع العقول الماضية التي صاحبت التطور البشري على مر القرون. إن العلوم بمختلف أنواعها تعرف أزمة حقيقية في مناهجها. ولا يقتصر الأمر على العلوم الإنسانية والفلسفة، بل يشمل العلوم الطبيعية والفنون والآداب وغيرها. فالعقل السياسي كما العقل الفلسفي كما العقل الاقتصادي كما العقل التربوي ما زالوا مشدوهين أمام المتغيرات الحثيثة التي أحدثتها تكنولوجيا الإعلام والاتصال.
إن العقل بمساعدة إدراكات أخرى هو من يصنع المعرفة. والعقل المسلم في حاجة إلى إعادة التفكير باستمرار في نظمه ومناهجه وقناعاته وعرضها على تكنولوجيا المعلومات. فليس مستساغاً اليوم أن نستورد حلولا جاهزة لمشاكلنا من جهات أخرى. فليس هناك شيء اسمه التخلف الحضاري إلا في عقل من يؤمن بذلك. ولعل المثبطات الداعية إلى مثل هذا الوهم تكمن في التضليل الإعلامي والجمود الديني وعدم الاستقرار السياسي وشيوع الخرافة ومعاداة العلم والتركيز على قضايا جزئية وتافهة بدل التفكير الجدي حول الأهداف الكبرى والمبادئ العامة التي يجب أن يسير عليها هذا العقل. إن على العقل المسلم أن يصبح جسوراً في اقتحام جميع المعارف وأن لا يركن إلى الدَّعَةِ والخمول والتغني، بل عليه أن يفكر في ذاته ويعيد تقييم حصيلة مكتسباته باستمرار. فطبيعة الثورة المعلوماتية لا ترحم لأن إنتاج المعارف هو عملية متجددة في كل آن. ويومياًَ يتم تزويد شبكة الأنترنت بأكثر من مليوني صفحة جديدة. فكيف نقبل أن نفكر بعقول لم تعرف كل هذه الثورات المهولة. هناك تحديات كبرى تواجه العقل المسلم تتجلى في محاربة الفقر والأمية وندرة المياه والتلوث وانعدام الاستقرار السياسي وشيوع الفكر الأحادي النمطي والاستبداد بالسلطة ورفض التداول. ويجب على العقل المسلم أن يَفُكَّ عِقاله ويكسر جموده ويرفض استقالته لينخرط في شؤون العالم بكل جزئياته وكلياته.
فجوة التعلم
ومن بين أسباب الخروج من أزمة العقل طرح مسألة التعلم في صلب قضية التنمية. ونحن جميعاً نلاحظ أن العقل التربوي مثلا لا يزال يفكر بالطريقة ذاتها التي كانت سائدة من قبل، بدون تبين ما تعنيه حقيقة التعلم مدى الحياة. لقد كانت الأسرة دائماً هي النواة الأولى والحقيقية للتعلم، ثم تتولى المدرسة استكمال دور الأسرة، وأخيراً تأتي تجربة الحياة في استكمال هذا التعلم. واليوم أصبحت وسائل الاتصال تزاحم بشكل كبير هذه الأركان الثلاثة في التعلم، وتنافسها في وظائفها الأساسية وهي الإخبار، والترفيه، والتعلم. وبدأت تظهر طريقة جديدة هي التعلم الذاتي الذي يقصي الوالدين والأساتذة من أدوارهم التقليدية. وقد أثبتت الأبحاث أن المعلومات حول الإنسانية تتضاعف كل سبع سنوات، ويتم تجديد المعرفة الإنسانية بالكامل خلال هذه المدة، مما يعني أننا دخلنا في طور جديد لمفهوم التعلم بصفة عامة. فأمام هذا الكم الهائل من المعلومات المتجددة تطرح مسألة التعلم والمدرسة والأسرة بصفة حادة. ولاشك أن منفذ الخروج يكمن في تعلم التعلم ذاته للقيام بالوظائف الإدراكية والعقلية الرئيسة وهي: التذكر والتفكير والإبحار في المعارف. علينا أن نطور بشكل جدي برامجنا لاستيعاب هذه الثورة الجديدة لإعادة تأهيل مدارسنا وأطرنا وتلامذتنا باستمرار. ولاشك أن نخب المستقبل لن تكون تلك المالكة للأشياء، بل تلك التي استطاعت أن تطور كفاءات التعلم وتعلم كيفية التعلم. وعلى الرغم من أن وسائل التخزين مثل الأقراص الصلبة في الحواسيب وغيرها قد قلصت من دور الحافظة في تخزين المعلومات، إلا أن تقنيات التعلم ستبقى نفسها، ولاشك أن للحافظة كما للذاكرة والتفكير ومعرفة كيفية الإبحار بين المعلومات الكثيرة أدواراً كبيرة في تكييف أوضاعنا بشكل متجدد. فالاختيار والبحث واختصار المسافات وتوحيد القصد وعدم التشتت والتحليل والتركيز كلها أساليب بناءة في الإبحار الواعي والهادف في شبكة المعلومات.
إن التغلب على فجوة التعلم يعني أن نوجه اهتمامنا إلى التعلم بشكل هادف وبرؤية متجددة وفق ما ذكرناه أعلاه. والتعلم أوسع من التعليم لأنه يشمل جميع أشكال اكتساب المعارف والخبرات والمهارات مدى الحياة، على حين يقتصر التعليم على مراحل الدراسة كما أفرزها عصر الثورة الصناعية. إن التعلم الذي انبثق مع عصر اقتصاد المعرفة لا يلزم منه مدرس بذاته ومدرسة بجدران ومؤسسة مغلقة، بل هو تعلم منفتح، جدرانه افتراضية وفصوله خيالية وتلامذته حقيقيون يتعلمون طوال حياتهم جميع أنواع المعارف والعلوم.
لقد كان الاقتصاد في مركز المجتمع الصناعي في انقطاع يكاد يكون شبه تام عن باقي المعارف، كما أن التعليم والتعلم هو في مركز مجتمع اقتصاد المعرفة، إلا أن له تفاعلا مع باقي مجالات المعرفة المختلفة والمتميزة عن بعضها. أما في مجتمع التعلم، وهو المرحلة المتطورة من مجتمع اقتصاد المعرفة، فإن التعلم سيبقى في المركز وبدل أن تحيط به تلك المعارف المختلفة، سيحيط به سديم من المعارف المتداخلة مع بعضها، حيث سيصبح التعلم للجميع هو الغاية المطلوبة، بشراً ونظماً وآلات.
لقد أصبح التعلم مدى الحياة هو الشاغل الأول في الدول المتقدمة، وصدر في اليابان عام 1990 قانون “التعلم مدى الحياة” الذي نص على إنشاء مجالس التعلم مدى الحياة على المستوى القومي ومستوى المقاطعات، وفي سنغافورة هناك حوالي 23% من السكان ما بين 16-63 عاماً ملتحقون بتدريب منظم تلبية للمطالب المتغيرة لسوق العمل.
– فجوة اللغة –
لقد أظهرت الأبحاث الحديثة أن تعلم لغة طبيعية يتطلب من المتعلم تخصيص ألفي ساعة لذلك. ولعل الحديث عن أنواع الفجوات الثلاث أن يبتدئ من الفجوة اللغوية لتجسير الفجوات الأخرى. فقد أظهرت التكنولوجيا الحديثة أهمية اللغة في مجتمع المعلومات واقتصاد المعرفة بشكل مذهل. ولاشك أن مصير العديد من الثقافات والحضارات رهين بمدى تطويرها للغتها الحضارية والقومية وحوسبتها حتى تستجيب للمتغيرات الجديدة. وإن تُرِكَ الأمر على ما عليه، فستندثر تلك اللغة نهائياً. فالعلاقة تفاعلية بين الجماعة الحاملة للغة، وبين اللغة التي هي الوعاء لحضارة أو ثقافة معينة.
إن المتصل اللغوي الثابت في العالم الإسلامي هو اللغة العربية، التي هي اللغة الحضارية العامة الناطقة باسم الحضارة الإسلامية، مع اختصاص لغات الشعوب الإسلامية بمجالات أخرى. وتعرف العربية اليوم تقدماً كبيراً وتتصدر الرتب الأولى للغات العالمية، وأن موجَباتها أكثر من نواقصها. فقد ارتفع عدد مستعملي الأنترنت بها من 2.5 مليون سنة 2000 إلى 61 مليون مستعمل الآن، أي بنمو يقرب من 2500 %. وهي أعلى نسبة نمو عالمية على الإطلاق. وإذا كانت العربية تحتل المرتبة السابعة عالمياً على الأنترنت، فإنه من المرتقب أن تنتقل إلى المرتبة الثالثة أو الرابعة. ناهيك عن كون العربية أضحت لغة الفضائيات الواسعة الانتشار والتأثير في الإعلام العربي والإسلامي والدولي. فاللغة العربية تمتاز بعدديتها وتداولها ووجود سوق عربية وإسلامية ودولية واعدة، رغم تواضع صناعة المحتوى، والذي يعود أساساً إلى النقص في الأطر المتخصصة في إنتاج المحتوى، وشح الموارد، ونقص التعاون بين الدول. ومع ذلك، فإن المؤشرات الإجمالية تفيد أن اللغة العربية أضحت لغة الاقتصاد المعرفي، وهي سلعة مربحة ومنتوج مستقبلي صعودي. وعلى الدول الإسلامية أن تتضافر في النهوض بالعربية بقدر اهتمامها وحرصها على النهوض بلغاتها الوطنية الأخرى، لأن العربية هي اللغة الحضارية للأمة الإسلامية ولكونها الأقدر على مقاومة طوفان التكييف والذوبان والانقراض الذي تعاني منه لغات العالم. والمستقبل سيؤول إلى عدد قليل من اللغات من ضمنها اللغة العربية. لقد أصبح من الضروري الانطلاق من خطة لغوية أساسها تدبير لغوي جديد، يراكم إيجابيات العربية الفصيحة، ويخلق لغة عربية إسلامية شاملة، مستوعبة للتنوعات اللهجية والتعبيرية الشعبية ومنفتحة على مفردات لغات الشعوب الإسلامية لتزويدها بما تحتاج إليه، وفق الضوابط الصرفية العربية ومرونة الاشتقاق العربي. فعلينا العمل على تفصيح اللهجات ومفردات لغات الشعوب الإسلامية واللغات الأعجمية. وللنهوض بهذا التدبير الجديد لا بد من إنشاء مجلس إسلامي أعلى للغات، توكل إليه مهمة التنسيق بين اللغات والتعاون والضبط والمعيرة والحوسبة الآلية، والعمل على خلق ظروف ملائمة لتشجيع البحث العلمي باللغة العربية وخلق المجلات المحكمة وتطوير التعليم والتعلم وتسهيل احتلال الجامعات في العالم الإسلامي لمناصب متقدمة في الترتيب العالمي.
إن التطور العالمي، إن ترك وفق حركته الذاتية، قد يؤدي إلى نشوء لغة عالمية واحدة مثل اللغة الإنجليزية التي تغطي ما يقرب من 80% من المواد المعروضة على شبكة الإنترنت، كما أن الإنجليزية هي لغة العلم وهو ما يؤهلها إلى أن تصبح اللغة العالمية، ففي ألمانيا مثلا 98% من الأبحاث العلمية في الفيزياء تنشر بالإنجليزية، وهناك اهتمام في الصين بنشر الإنجليزية بين أطفالها حتى ينشأوا وهم على اتصال بمجال البحث العلمي، لكن توجد شكوك حول إمكانية أن تكون الإنجليزية هي لغة المستقبل العالمية، لأن فكرة التنوع اللغوي الذي يرتكز عليه التنوع الثقافي تجعل العديد من الثقافات حريصة على عدم التفريط في أوعيتها الحضارية، والتوقعات تشير إلى أن العالم سوف يحتفظ بحوالي عشر لغات قوية، وأن ما سيبقى هو 5% من اللغات الحالية، فهناك معدل باختفاء لغة واحدة كل أسبوعين تقريباً، ويقدر عدد اللغات الموجودة حالياً في العالم بحوالي 6800 لغة، ولكن 90% من هذا العدد يتكلم به حوالي 100 ألف نسمة فقط، ومن هنا فللعولمة دخل في موت اللغات. وهناك جهود تبذل في العالم الإسلامي لكتابة ومعيرة العديد من لغات الشعوب الإسلامية وخاصة في إفريقيا، بالحرف القرآني المنمط. وقد نجحت هذه التجربة لأكثر من 24 لغة إفريقية، والتجربة آخذة في الانتشار لبعض لغات الشعوب الإسلامية في آسيا.
دور العلماء في توزيع المعرفة
في مجتمع المعلومات واقتصاد المعرفة
لعل أول سؤال يثور في الذهن هو عن استمرارنا في الحديث عن علماء الدين. وقد لاحظنا أن التغييرات المهولة التي يسوقنا إليها مجتمع المعلومات واقتصاد المعرفة هي في إعادة صوغ أسئلتنا وانتظاراتنا وتخصصاتنا وفق رؤية شمولية تجعل من عالم الدين عالماً أيضا بلفيف متداخل من العلوم. فلم يعد هناك عالم بمجال معين إلا وهو عالم بمجالات أخرى متداخلة. فالشيء الذي ينبغي أن نصبو إليه أن يصبح علماء الأمة علماء بالمعنى العام، ولا شك أن هذا كان حال العلماء قديماً بحيث يطلق على من كان بهذا الوصف، اسم العالم المشارك. ونحن في أمس الحاجة اليوم إلى العلماء المشاركين في حقول المعرفة. وهذا يطرح مسألة تكوين وتأهيل العلماء باستمرار لأنها السمة الغالبة على العصر. فالتخصص في العلم الشرعي بإغفال المعارف الأخرى من شأنه أن لا يفيد صاحبه فكيف به أن يفيد غيره نظراً لهذه الطبيعة المتداخلة لكل العلوم والمعارف. والفقه هو شدة الفهم، ولا شك أن إنزال فقه النصوص على فقه الواقع يحتاج إلى فقه ثالث هو فقه إنزال فقه النصوص على فقه الواقع. والفجوة بأنواعها تحتم على العلماء أن ينخرطوا في قضايا العصر بشكل فاعل لتجسير الهوة بين الدول المتقدمة والدول النامية، والتفكير في جميع قضايا التنمية الشاملة، وفتح قنوات الحوار والتواصل مع الجميع، وخاصة مع الشباب الذي هو رأسمال الأمم.
خاتمة:
لقد انطلقنا في حديثنا حول الفرح بالمصطفىρ وخلصنا إلى وجوب العمل به مما اقتضته طبيعة التحولات المعرفية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها العالم. ثم بينا تهافت المنكرين وعدم مسايرتهم للعصر. كما بيّنا أن إنكار الاحتفال بالمولد النبوي عند بعض الجهلة مردُّه إلى عدم معرفتهم بالأحكام الشرعية لأن العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً. فإن العلة اليوم اختلفت وأصبح الأمر لازماً لازِباً سيما بعد الحمَلات المسعورة التي تظهر بين الفينة والأخرى في الدول الغربية للسخرية من نبينا وقذفه بما لا يليق. إن الاحتفال بالمولد يجب أن يصبح شأناً مستمراً في حياتنا لأن النبي هو سيدنا وقدوتنا ومعلمنا، أقدامه فوق رؤوسنا ρ. وبالإكثار من الصلاة عليه تعظم البركة وتكثر الخيرات وتحلُّ بنا الرحمات. ثم خلصنا بعد ذلك إلى أن السبب الرئيس وراء الفجوة المعرفية التي يعاني منها المسلمون هو الجفوة التي حصلت بينهم وبين نبيهم، أو على الأقل عند طائفة منهم. وبناء عليه، فإن من أسباب الرقي والتقدم هو في التأسي برسول الله والتَّقَيُّد بما جاء به من عند الله، وتعظيم شأنه أيَّما تعظيم، وتوقيره واحترامه وكل ما يتعلق به أو ينسب إليه. فالتوقير يشمل آل بيته وزوجاته وأصحابه ومن انتسب إليه. فلنفرح بنبينا في كل وقت وحين. هذا هو طريق الخلاص لهذه الأمة. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.