حوار مع الفقيه العلامة عبد الله بلمدني بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف
بمناسبة حلول ذكرى ولادة الفجر الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يبتهج موقع “شوارق” بأن يجري حوارا بالمناسبة مع أحد أعلام العلم والصلاح في بلادنا في السياق المعاصر. إنه الفقيه العلامة سيدي عبد الله بلمدني، عضو المجلس العلمي المحلي ببني ملال، والفقيه المبرز في عدة معارف وعلوم شرعية. اشتهر بنشاطه في الدرس والتدريس؛ وخصوصا بكرسيه العلمي في التصوف (كرسي الإمام الجنيد)، وكذا بكرسي السيرة النبوية (كرسي الإمام السهيلي)؛ كما حاز على عدة جوائز علمية رفيعة، وحظي بالمشاركة في عدد من اللجان العلمية المحكمة في القرآن وعلومه.
نص الحوار
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا وبعد.
. أستاذنا الجليل، مرحبا بكم على موقع “شوارق”. تحتفل الأمة الإسلامية هذه الأيام بمولد المصطفى صلى الله عليه وآله سلم وتعبر عن ذلك بشتى ألوان الفرح. فما هي في نظركم بعض المقاصد الرفيعة لهذا الاحتفال؟
الجواب: لهذا الاحتفال مقاصد شتى متنوعة في مجالات مختلفة. من هذه المقاصد، المقصد الأول الذي هو: تجديد البعثة النبوية، المقصود بتجديد البعثة النبوية تجديدها في النفس وتجديدها في الآفاق، تجديدها في نفس كل مسلم، لإحياء نفسه لهذه البعثة أي حينما نقف أمام هذه الذكرى المباركة، الذكرى العظيمة، فإننا نجدد بذلك هذا المقصد الأصيل الذي هو تجديد البعثة النبوية في نفوسنا في مشاعرنا في أرواحنا في قلوبنا في أفئدتنا في مواطننا ثم تجديدها في الآفاق كما أشارت الآية الكريمة: ﴿سنريهم آيتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾؛ تجديدها في الآفاق في الدنيا كلها في العالم كله، تجديدها في الأسرة، تجديدها في الحي، تجديدها في المدينة، تجديدها المجتمع، تجديدها في الأمة، تجديدها في العالم: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾.
المقصد الثاني: تجديد الوحي؛ ذلك لأن صاحب الذكرى هو الذي أنزل الله عليه الوحي المبارك، الذي هو اتصال السماء بالأرض، ونظر الله عز وجل إلى العباد، وإلى الكون، لإنزال هذا الوحي الذي به يحيي الله النفوس وروح الوجود وروح الدنيا: ﴿كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لن تهدي إلى صراط المستقيم صراط الله الذي ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تسير الأمور﴾. هذا المقصد الثاني تجديد الوحي والتذكير بنعمة الوحي. وإنها من أعظم النعم التي يتجلى بها على العباد، وهذا مما توحي به هذه الذكرى؛ وذلك لأننا عندما نقف أمام صاحب الذكرى، عليه الصلاة والسلام، نستلهم هذا المقصد العظيم الذي هو مقصد الوحي الذي به قامت السماوات والأرض وبه حفظ هذا الكون، ولذلك عندما يغيب هذا الوحي وعندما يرفع هذا الوحي الذي هو القرآن تقوم الساعة ويخرب العالم.
وكذلك من هذه المقاصد الكبرى العظيمة التي نستوحيها ونستلهمها من هذه الذكرى الرحمة الشاملة التي جاء بها نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام لتعم الكون كله لأن الله قال كما في الآية السابقة: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾.
ومن هذه المقاصد أيضا نقصد الختم أو الخاتمية والكمالية، إلأى جانب التمامية، والمقاصد الثلاثة متلازمة مقصد الختمية مقصد الكمالية مقصد الإتمامية؛ مقصد الختمية أو الخاتمية هو أنه من منة الله تعالى على هذه الأمة، بل على العالم كله أن ختم الوحي لصاحب الذكرى فلا وحي بعد هذا الوحي، ولا نبوة بعد هذا النبي، ولا رسالة بعد هذه الرسالة. فلم تعد تحتاج البشرية بعد هذا النبي الكريم إلى وحي آخر ينير لها طريقها وإلى رسول آخر يسددها ويرشدها ويأخذ بيدها. فقد ختم الوحي، لماذا؟ للمقصد الذي هو مقصد الكمال؛ ذلك لأن هذه الرسالة قد كملت الكمال التام الذي لم تحتج فيه هذه الأمة ولا البشرية إلى غيرها، إلى غير هذه الرسالة؛ لأن فيها الكمال؛ الكمال من كل الوجوه، الكمال في جانب التعبد، وفي جانب العقيدة، وفي جانب العبادات، وفي جانب التشريع، وفي جانب الأخلاق، وفي جانب الاقتصاد، وفي جانب السياسية؛ في جميع الجوانب قد جاءت الرسالة بالكمال في الحياة كلها في الدين والدنيا. الكمال في الكيف. ثم مقصد آخر الذي هو مقصد التمام؛ فالرسالة تامة تمام التمام. فهي كاملة في الكيف، وتامة في الكم؛ فكل ما تحتاج إليه البشرية وما تحتاج إليه هذه الأمة على وجه الخصوص وما يحتاج إليه الفرد وما تحتاج إليه الأسرة وما يحتاج إليه المجتمع، في الكم ففي الرسالة، وفي الكيف ففي الرسالة؛ فالحاجة من حيث الكم نسميه كفايتها بالتمام، ومن حيث الكيف نسميه كفايتها بالكمال. فقد قال الله في هذه المقاصد في مقصد الختم ﴿ما كان محمد أبا أحدكم من الرجال ولكن رسول الله وخاتم النبيئين﴾؛ وقال الله تعالى في مقصدي مقصد الكمال والتمام: ﴿اليوم أكممت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت بالإسلام دينا﴾. فهذه المقاصد الكبرى في هذه الذكرى وفي الاحتفال بها ويمكن أن تستنبط مقاصد أخرى كثيرة جدا لا حصر لها ولا عد. هذا بالنسبة للسؤال الأول والإجابة عنه.
. كيف أسهم هذا الاحتفال في ترسيخ محبة النبي الكريم في وجدان المغاربة؟ وما هي بعض تجليات ومظاهر تلك المحبة؟
الجواب: هذا الاحتفال الذي تربى عليه المغاربة منذ نعومة أظفارهم وربوا على هذا الاحتفال أبناءهم منذ نعومة أظفارهم ذكورا وإناثا، وكان لهذا الاحتفال من مظاهر المحبة التي انعكست على الأسر في بيوتهم وانعكست على الزوايا في زواياهم، وعلى المساجد في مساجدهم، وعلى جميع المؤسسات في مؤسساتهم، وعلى ملوك هذه الدولة وأمراء المؤمنين فيها. فكان الاحتفال في هذا البلد احتفالا عاما شاملا لترسيخ المحبة النبوية في القلوب وتربية النشء على هذه المحبة، حتى كان هناك ذلك النشيد المبارك وتلك القصائد التي تزرع محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم في قلوب الكبار والصغار الذكور والإناث وفي البيوت؛ تتردد تلك القصائد وتتردد تلك المقاطع من سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فينشأ النشء متعلقا بهذا النبي الكريم، متعلقا بهذا المحبوب الذي أحبه الله عز وجل واختاره بهذا الكمال المحمدي الذي هو الكمال من كل الوجوه؛ الكمال من الوجوه المعنوية، ومن الوجوه الحسية المادية. لقد اجتمع الكمال كلّه في هذا النبي الكريم الخاتم الذي منّ به الله تعالى على هذه الأمة. والإنسان مطبوع ومجبور على حب الكمال، وعلى حب الجمال، وعلى حب النوال. فهذه فطرة فطر الله تعالى العباد عليها؛ أنهم يتعلقون بالجمال وبالكمال وبالنوال. وهذه الوجوه كلها قد اجتمعت في المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فهو الكامل من كل الوجوه، فهو أجمل ما خلق الله، وأكمل ما خلق الله وأكرم ما خلق الله.
ولدت مبرئا من كل عيب — كأنك قد خلقت كما تشاء
وأجمل منك لم تر قط عيني — وأفضل منك لم تلد النساء
أما عن بعض تجليات ومظاهر تلك المحبة.. قلنا بأن مظاهر تلك المحبة وتجلياتها في هذا البلد الأمين كثيرة ومتعددة، ومنها على سبيل المثال: إنشاد تلك القصائد التي تصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا كأن الإنسان يراه بعينه؛ حتى يتجلى ذلك الجمال وذلك الكمال، في خيال الطفل وفي خيال الصغير والكبير والشيخ والكهل والشابّ؛ فكان أبناء هذا البلد الكريم متعلقين بشخص المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يلهجون بمحبته، ويعبرون عنها شعرا ونثرا وأمثالا حتى في اللغة التي يتخاطبون بها؛ وكذلك في المعاملات وفي الأعراف التي يتخاطبون بها، فكانت هذه المحبة ظاهرة جلية واضحة تعبر عن نفسها بنفسها.
. ما الذي يجعل حاجتنا اليوم ملحاحة لاستثمار هذه المناسبة من أجل تجديد التعرف على سيرة الرحمة المهداة، والتعريف بها في السياق الراهن؟
..السؤال يقول بل يجعل الحاجة اليوم ملحة لاستثمار هذه المناسبة من أجل تجديد التعرف على السيرة الرحمة المهداة. نعم، التعريف بها في السياق الراهن حاجة ملحة جدا جدا جدا؛ ذلك أن القلوب قد أصابها شيء من الجفاف والمشاعر قد شابها شيء من الجفاف، ومن الاحتفاء بهذه الذكرى وبإحيائها وبالاحتفال بها تتجدد هذه الروح في التعلق بالمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم؛ وتتجدد هذه المشاعر في تعلقها بالمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم؛ وكذلك يتجدد التعلق بهذا الكمال الرباني الذي أكرم الله تعالى به الأمة الإسلامية وأكرم الله تعالى به الإنسانية كلها. إنها حاجة ملحة على جميع الأصعدة وعلى جميع المستويات؛ فنحن في حاجة ماسة شديدة إلى إحياء سيرة المصطفى صلى عليه وسلم وإحياء شخصه الكريم عليه الصلاة والسلام في نفوسنا، وذلك من أجل أن نتعلق به، فإذا تعلقنا به تركز في الروح وتركز في المشاعر وفي العقول وفي الأفكار، تركز الحق كل الحق، فما رسم الحياة (إلا) بالحق، وانتقلنا من الهزل إلى الجد، ومن الشتات إلى التوحيد إلى توحيد القلوب وجمعها على الحقيقة النبوية المحمدية؛ جمعنا مشاعرنا على السمو والعلو، جمعنا نفوسنا على النور حيث سنتنور جميعا، على نور واحد، نور النبوة، نور النبوة المحمدية، نور محمد الذي يجمع هذه القلوب على شيء واحد على حقيقة واحدة على مصدر واحد؛ فلا تناقض ولا تضارب ولا تباين ولا غزو فكري لأننا سنكون محصنين بالحق والحقيقة.
. ما هي بعض مظاهر العناية المغاربة بالسيرة النبوية في مثل هذه المناسبة؟
الجواب: مظاهر العناية المغاربة بالسيرة النبوية في مثل هذه المناسبة أيضا متعددة، فتتجلى في مظاهر كثيرة؛ من ذلك مثلا أننا نحن المغاربة عندنا كتابان جليلان من أجل ما ألف في السيرة النبوية وفي هذه المناسبة نفزع إلى أحد هذين الكتابين أو الكتابين معا.
الكتاب الأول الذي هو من أجلِّ ما ألف في السيرة النبوية الكتاب الذي ألفه عالم من أعلام الأمة الإسلامية ومن أعلام هذا القطر المبارك المحفوظ بحفظ الله تبارك وتعالى وهو الإمام القاضي العياض أبو الفضل رحمة الله تعالى وكتابه هو “الشفاء في حقوق المصطفى”؛ الشفاء فلنتأمل هذه الكلمة العجيبة وهذا العنوان وما تحته من إسرار؛ إنه الشفاء بجميع أنواعه؛ شفاء الروح، شفاء القلب، شفاء الفكر، شفاء العقل، شفاء البدن، شفاء الفرد، شفاء المجتمع، شفاء الأمة، الشفاء على جميع أصعدة المستويات؛ الشفاء لحرارة هذه المحبة المتعلقة بهذه الذات النبوية الكريمة. فبالاحتفال بهذه المناسبة وبهذه الذكرى يحقق الشفاء؛ بل يحقق الشفاء في اقتصادنا، في سياستنا، في معاملتنا؛ الشفاء تعبدنا لربنا ،الشفاء في علاقتنا، في سلوكنا، في أخلاقنا، الشفاء في زواجنا؛ الشفاء في تربيتنا؛ لأولادنا الشفاء؛ في حقوق الجوار في ما بيننا، في التعاون في ما بيننا، الشفاء لأرباب العمل وللعمال، الشفاء على جميع المستويات.
أما الكتاب الثاني؛ فهو كتاب لذلك العالم الهمام إنه الإمام السهيلي رحمه الله المسمى بـ”روض الأنف”؛ فإذا المغاربة يعيشون بين روض رياض، وبين شفاء وبين رياض، يستمتعون ويتلذذون بين شفاء. فمن عاش بين الشفاء وبين الرياض هل يلحقه ملل؟؟؟؟ هل تلحقهم سآمة؟؟؟؟ هل يحلقه ما يلحق الناس اليوم من مرض الاكتئاب وما إلى ذلك؟؟؟؟ فقولنا في هذا البلد وفي هذا القطر المبارك السعيد عاشوا بين هذين الكتابين وما تفرع عنهما من ما هو من قبيل الشفاء، وما هو من قبيل الاستمتاع بالروض الأنف، فهم ما بين روض جميل لطيف رائع رقيق، وما بين شفاء. وهذا الشفاء يتحقق لكل مؤمن ومؤمنة؛ هذا الأمر العظيم الذي هو حقوق المصطفى التي هي حقوق على الدنيا كلها، وعلى الناس كلهم، حقوق من أسدى إلى الإنسانية الشفاء، أسدى إليهم الدواء، وأسدى إليهم النور؛ وأخرجهم به الله تعالى من الظلمات إلى النور. أسدى إليهم الحب، ولذلك فإن أهل بلدنا يتحابون بهذا الحب النبوي الكريم، يتحابون فيما بينهم، في معاهدهم، في مدارسهم، في زواياهم، في مساجدهم، في حلقات ذكرهم، يجمعهم هذا الحب والنور وهذا السمو.
. ظل المسلمون دوما يعيدون كتابة السيرة النبوية في كل مراحل تاريخهم، ويجددون نظرهم فيها، ما الغاية من هذه العودة المتجددة والدائمة لمدرسة السيرة المصطفوية؟
هذه الأسئلة بعضها قد يكون شبه مكرر من البعض الآخر ومع ذلك نحاول أن نجيب إن شاء الله عن كل هذه الأسئلة. يقول السؤال ما الغاية من هذه العودة المتجددة الدائمة لمدرسة السيرة المصطفوية؟ وما ذكرت سابقا وهو أن العودة بين التجدد الدائم للمدرسة السيرة النبوية هو ضرورة من الضرورية إلى الضرورات التي لا يتحقق الإصلاح المنشود إلا بها، وهو واجب أيضا من واجبات الشرعية التي لا تبرأ الذمة إلا بتحقيقها. فبالعودة إلى هذه المدرسة النبوية المصطفوية التي بها ينقذ العالم كله اليوم مما أصابه ومما يعانيه من الاضطراب ومن خلاف ومن حروب وما إلى ذلك مما يتخبط فيه بالليل وبالنهار، وفي الصباح والمساء وفي جميع (الأمور)؛ لن يتحقق الخروج إلا للعودة إلى هذه السيرة النبوية المصطفوية من قبل المسلمين الذين يقدمون للعالم اليوم هذا النموذج الكامل الذي يحيي فيهم روح الحب وروح السماحة وروح التعاون على البر والتقوى والتعاون على الخير ونبذ كل مظاهر العنف ومظاهر التشدد ومظاهر العداوة، لأن رسالة هذا الخاتم الذي نحتفل به ونحتفل بذكراه تقول ﴿يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾، لتعارفوا ليتعارف هذا العالم بعد التناكر وليتحاب بعد التباغض ويتعاون بعد الخلاف ويتوحد بعد النزاع، ليكون كتلة إنسانية تبني حضارة إنسانية في شقيها الروحي والمادي، في شقيها السماوي والأرضي، في شقيها الشرعي والعقلي والكوني. فإذا، إن المسلمين اليوم في حاجة ماسة إلى العودة إلى هذه المدرسة النبوية الشريفة الجامعة والبانية والموحِّدة والموحَّدة في نفسها.
ومن هذه الأسئلة: ألا يحتاج المسلمون اليوم إلى طرح أسئلتهم الخاصة على السيرة النبوية والاستمداد منها لحل عدد من قضايا على مختلف المستويات التعبدية الاجتماعية والأخلاقية؟؟ نعم المسلمون اليوم في أشد الحاجة إلى طرح كل الأسئلة التي تتردد في أفئدتهم وفي عقولهم وفي أذهانهم، وتتردد كذلك في مجتمعاتهم، وفي مؤسساتهم، وتطرح عليهم سواء هذه الأسئلة من ذاتهم أو من خارج ذاتهم. كل أسئلة مطروحة من الأسئلة العقلية ومن العالم كله ففي المدرسة النبوية الإجابة عليها الشافية الكافية التي لا تبقي في القلب ولا في العقل شيء من التردد والشك والريب. وصدق ذلك العالم الغربي المنصف الذي قال قولته المشهورة سائرة يقول: ”لو كان محمدا صلى الله عليه وسلم حيا اليوم لحل مشاكل العالم كله في مقدار ما يشرب فنجوان قهوة”. في لحظات، لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم حيا لاستطاع أن يحل مشاكل العالم في هذه اللحظة في مقدار لا يشرب كأس قهوة أو كأس شاي؛ ذلك لأنه موصول برب السماء. ولكن نقول في الإجابة عن هذا إنه لا زال صلى الله عليه وسلم حيا بسنته المباركة المحفوظة التي حفظها الله عز وجل، فالرسول لم يغب إلا شخصه، وأما حياته كلها من ألفها إلى يائها فهي الآن موجودة بين أيدينا وقد حفظها الله كما حفظ الذكر الحكيم الذي هو القرآن، وهي داخلة في حفظ يقول فيه الله عز وجل ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإن له لحافظون﴾. وما حفظت سيرة شخص حتى ولو كان نبيا من أنبياء الله أو رسولا من الرسل أو مصلحا من المصلحين؛ ما حفظت سيرة شخص من الأشخاص كما حفظت سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام. فليس بينها وبيننا إلا أن نلتفت إليها فقط، فهي الشمس الواضحة في رابعة النهار، ولكن هذه الشمس تحتاج إلى بصر ليفتح؛ فإذا فتح البصر رآها.
الله أكبر إن دين محمد — وكتابه أقوى وأقوم قيلا
لا تذكر الكتب السوالف عنده — طلع الصباح فأطفؤوا القنديلا
إن الناس يحتاجون إلى الاستضاءة والاستصلاح في ظلام الليل لما عندهم وما يقدون عليه فهذا يشعل مصباحا كهربائيا وهذا يشعل مصباحا زيتيا وهذا يشعل مصباحا من الشمعة وهذا عود الثقاب حتى إذا طلعت الشمس الكل يطفئ مصابيحه ويستظل بنور الله. وهكذا عندما تطلع شمس النبوة، تطلع في كل يوم بل في كل لحظة، وها هي الآن طالعة علينا بجمالها وكمالها وبهائها ونقائها وصفائها في هذه الذكرى، تطلع هذه الشمس بذلك الإشراق الذي ليس فيه إحراق وإنما فيه الإشراق والصياء؛ فما أحوجنا إلى تفعيل هذه السيرة النبوية لتخرج إلى الدنيا ونحن مسؤولون عنها، وبمناسبة هذه الذكرى ينبغي أن نعد أنفسنا لنكون أهل لذلك.
قد رشحوك لأمر إن فطنت له — فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
. كيف السبيل لوصل الأجيال الجديدة بنمودج الكمال المحمدي قصد الاهتداء بمكارمه في بناء مجتمع إنساني آمن ومتضامن؟
الجواب: السبيل لوصل الأجيال الجديدة بهذا النموذج للكمال المحمدي قصد الاهتداء بمكارمه يكون بتجلية هذه السيرة النبوية في الذات، في ذات الأمة؛ لأن هذه السيرة هي مبنية على القدوة والأسوة وعلى التشخيص والتجسيد، فليست سيرة نظرية وليست سيرة مثالية في الهواء، وإنما هي سيرة واقعية؛ لأن من خصائصها أنها واقعية، فهي متصلة بالدنيا كلها كما هي متصلة بالآخرة، فهي متصلة بالسماء والأرض، ومتصلة بالكتاب المسطور وبالكتاب المنظور؛ بالكتاب المسطور الذي هو وحي الله تبارك وتعالى الناطق، وبالكتاب المنظور الذي هو كون الله عز وجل. فهي سيرة متجلية في هذه الصور كلها، ولذلك فهي سيرة دنياها متصلة بالآخرة، وسماؤها متصلة بالأرض، فهي سيرة في الملأ الأعلى وهي سيرة في عالم الغيب وفي عالم الشهادة. وإذا كان الأمر كذلك، فلا سبيل إلى وصل الأجيال الجديدة بهذا الكمال المحمدي إلا إذا جلينا السيرة النبوية في جميع الظروف والأحوال، وإلا إذا جليناها بصفة خاصة في هذه الذكرى المجيدة التي هي ذكرى تجلية الكمال المحمدي؛ وذلك لأن هذه السيرة كمالها متجدد لا يتوقف أبدا، ولكن كلما اقترب الإنسان من معينها واقترب من مشكاتها ومن ضيائها كلما تجلت فيه، وهكذا في أجواء هذه الذكرى النبوية المجيدة، نتطلع ونسمو ونرتقي إلى سمائها لتنعكس علينا لنصنع من أنفسنا مرآة صافية نقية طاهرة، لتنعكس علينا شمسها وإشراقها، فهي الشمس المشرقة، ولكن لا يمكن أن تتجلى هذه الشمس المشرقة إلا في تلك المرآة الصافية النقية التي تعكس ضيائها وتعكس إشراقها.
وبمناسبة حلول هذه الذكرى ومرورها بنا، تحرك فينا هذا الوجدان، وتحرك فينا هذه الشجون. فإذا بغيثها الذي يتنزل قطرا، وإذا بمائها الزلال الذي يجري في جداول القلوب، وإذا به يتضح رقراقا شلالات من الغيث النبوي المحمدي، وإذا به يجري جريانا رقراقا في قلوبنا التي تحمل ذلك الغيث الرباني كما صوره القرآن الكريم: ﴿أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم بالحسنى والذين لم يستجيبوا له ولو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبيس المهاد أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق…﴾ الآيات الكريمات.
. بما أن الرسول عليه الصلاة والسلام مبعوث للناس كافة فسيرته محل اقتداء إنساني، وكل قيمة وخلق فيها هو هداية ورحمة للعباد، فكيف يمكن أن نجعل منها كذلك؟
الجواب: الإجابة عن هذا السؤال يتجلى في آية كريمة، وهذه الآية الكريمة بجلالها وجمالها وكمالها ونورها وبهائها تحتاج إلى وقفة اليوم من هذه الأمة لتجليها للعالم كله؛ إنها الآية الواردة في سورة الأحزاب وهي قول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا﴾. ولنتأمل هذه الآية ولنقف معها متدبرين آفاقها الواسعة العريضة ولطائفها الجميلة الرائعة؛ فمن لطائفها أن ربنا عز وجل افتتحها بأسلوب يدل على القسم، وذلك لأن الأمر مهم جدا، لذلك افتتحها الرب جل جلاله بهذا القسم الذي دل عليه اللام في قول الله تعالى على ”لقد”، فهو دال على قسم محذوف يقدر بقولنا: وعزتي وجلالي، فالله يقسم بعزته وجلاله وذاته سبحانه وتعالى على هذا الأمر العظيم الذي هو أمر القدوة والأسوة، ثم يؤكد ذلك بتأكيد آخر بالإضافة إلى القسم الذي هو من أجل الأساليب المؤكدة وهو حرف ”قد” الذي يدل الآن على التحقيق ”لقد كان لكم”. ثم يأتي أسلوب آخر من المؤكدات في الآية الكريمة وهو لفظ ”كان” الذي يدل على الكينونة التي تدل على التمكن، وجاء بلفظ الماضي الذي يدل على انتهاء هذا الأمر وأنه ينبغي أن يكون متحققا، وأن يكون موجودا، وذلك لأنه متحقق وموجود وكائن في علم الله السابق والمطلوب أن يكون. ولذلك لم يعبر عنه سبحانه وتعالى بتعبير المضارع مثلا، وإنما قال: ”لقد كان” ينبغي أن يكون هذا الأمر في حسبان كل مسلم من هذه الأمة؛ أن يكون هذا الأمر مقطوعا به؛ وأن يكون هذا الأمر في حسبان كل مسلم ومسلمة كيفما كانت وضعيته أمرا محسوما لا يتطرق إليه شك ولا ريب. ثم يقول الله في هذه الآية في رسول الله: ”لقد كان لكم” اللام هنا الذي يدل على التشريف ويدل على السمو ويدل على أن الله عز وجل أراد لهذه الأمة أن يتجلى في الكمال المحمدي والجمال المحمدي والبهاء المحمدي ونور المحمدي لكم أنتم؛ أنتم الذين تحملون هذا النور وتحملون هذا الجمال والكمال للبشرية كلها حيث تلتف حولكم هذه البشرية من أجل أن تستريح من مشاكلها وأن تستريح من أوضاعها المزرية ومن أوضاعها القاتلة ومن أوضاعها التي تشتكي منها بالليل والنهار والصباح والمساء؛ “لكم” ثم يقول: “في رسول الله”؛ “في” الظرفية التي تدل على أن المظروف هنا الذي هو الأسوة ينبغي أن تكون محصورة في هذا الرسول لا تتعدى القدوة والأسوة إلى غيره، لماذا؟ لأن فيه الكمال كله، فيه الجمال كله، فيه كل ما تحتاج إليه البشرية. فقد أغنى الله تعالى هذه الأمة والبشرية تابعة لها، إلا إن أرادت أن تلتفت إلى غير هذه القدوة الكاملة التي أراد الله عز وجل أن تكون قدوة للإنسانية كلها حتى يتحقق لها الكمال. لذلك قال: “في رسول الله”، وقدم الله تعالى “في رسول الله” على “الأسوة”، لم يقل: ”لقد كان لكم أسوة في رسول الله”؛ أي ينبغي أن تحصر القدوة في رسول الله وأن لا تتعداه إلى سواه. المراد بالإسوة أو الأسوة يعني أن يكون قدوة وأن يكون هدفا يضعه كل مسلم أمام عينيه؛ كل مسلم ومسلمة، وكل أسرة، وكل مجتمع ينبغي أن يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه في مخيلته، في ذهنه، في عقله، في مشاعره، في روحه؛ أن يكون هو الهدف المنشود في حياته كلها، في عسره وفي يسره، وفي منامه وفي يقظته، في اقتصاده وفي سياسته وفي تعليمه. هو النموذج الكامل الذي نربط حياتنا كلها به. ينبغي أن تربط الحياة كلها بهذا الكمال، بهذا الإشراق، بهذا السمو، فحينما نرتبط بحياتنا كلها بهذه العروة الوثقى فلن نضيع أبدا؛ لماذا؟ لأننا اعتصمنا بالذي يعصمنا بربنا عز وجل، اعتصمنا بالمعصوم الذي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو معصوم، ومن اعتصم بالمعصوم عصم، وهو محفوظ، ومن اعتصم بالمحفوظ حفظ، فهو حكيم ومن اعتصم بالحكيم صار حكيما، وهو عزيز ومن اعتصم بالعزيز صار عزيزا. فهذه الآية هي التي تجيب عن السؤال الأخير وهذا كله باختصار.
نسأل الله تبارك وتعالى أن نكون موفقين في الإجابة عن هذا السؤال
إن ربنا سميع قريب مجيب. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد
البشير النذير، رحمة الله للعالمين، وعلى آله وصحبه التابعين،
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.