د / سيدي محمد السرار
الشخصية النبوية بحر بلا ساحل
إن ما يتعلق بجوانب العظمة في الشخصية النبوية المطهرة بحر لا ساحل له، لا يمكن أن يحاط به في كلمة بل ولا في كتاب، ويكفي لمعرفة بعض جوانب هذه العظمة النظرُ في الحيز الذي خصص للجناب النبوي الكريم في القرآن المجيد، ذلك أن المذكور في القرآن الكريم إنما يستمد قيمته وعظمته من حجم الحيز الذي خصص له، ومن المواضيع التي تكرر ذكره فيها.
ولهذا فالنبي صلى الله عليه وسلم، حضوره في القرآن الكريم في غاية الكثرة، وفي مواطن متعددة، والقرآن الكريم يثني على النبي صلى الله عليه وسلم ثناء في غاية الروعة وفي غاية الجلال .
ومن ذلك هذه الآية الجامعة الفاذة، وهي قول الله عز وجل (وإنك لعلى خلق عظيم).
والخلق هي تلك السجايا النفسانية التي تدرك بالبصيرة لا بالبصر، والتي تدل عليها الآثار من خلال التعامل مع الناس، وهو يقابل الخِلقة التي هي تلك الصور والهيآت التي يدركها المدركون بالبصر، فكما أن الناس في الوضع والصور تحدد ملامحهم الشخصية، ويمكن أن نميز بين هذا وذاك، ونفرق بين فلان وفلان من خلال تصفح ملامح هذا الذي يختلف عن ملامح ذاك. وهذا كله مدرك بالعين الباصرة، فكذلك الناس أيضا يفترقون ويتباينون في أخلاقهم من خلال ما ندركه ببصائرنا، وذلك بعد المعاشرة والمخالطة والمحاككة، وقد أخبر الله عز وجل أن خلق النبي صلى الله عليه وعلى وآله وسلم عظيم وذلك على جهة الإطلاق دون تعيين لفرد من أفراد الخلق، وهذا دال على أن عظمة النبي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الخلقية موجودة في جميع أفراد الأخلاق الحسنة، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم عظيم في خلق الحياء، كما أنه عظيم في خلق الصبر، كما أنه عظيم في خلق الكرم والسخاء، كما أنه عظيم في كذا وكذا، إلى مالا يتناهى من الأخلاق.
خلق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاق جميع الأخلاق وسبق جميع الشيم، ما من خلق يتصوره المتصورون، ما من خلق يخطر ببال أحد، ما من خلق يمكن أن يشاهده المشاهدون
سيرة اجتمع فيها ما تفرق في غيرها
والذي يميز نبينا صلى الله عليه وسلم عن سواه هو جمعه جمعا تاما في عظمة واكتمال بين أفراد هذه الأخلاق، ويجعله فردا في هذا الباب، ذلك أن الناس إنما يتفاضل هذا عن هذا، ويسبق هذا هذا، بخلق يتميز به، فيقال فلان شجاع، فإذا فتشت في أمر آخر قد لا تجد عنده من الاحتمال وسعة الصدر ما عند غيره، ويقال في الثاني فلان صبور فإذا فتشت عن جانب الشجاعة والإقدام قد لا تجد عنده ما عند الآخر، ويقال فلان كريم فإذا فتشت فيه عن خلق آخر كالحلم لم تجد فيه ما يناسب ما وصف به من الجود والكرم، ولكن بالنسبة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم فقد اجتمع فيه ذلك في اكتمال تام وفي عظمة متناهية كما أخبر القرآن بذلك.
العظمة عند العرب يقصدون بها كبر الشيء وسبقه لغيره، وكونه أكبر من غيره وذلك مأخوذ من العظم فإن العظيم هو الذي كان عظمه أكبر من عظم الآخر، ثم أخذوا هذا المعنى فاستعاروه لكل شيء عظيم، فكل ما فاق غيره في شيء محسوس أو في شيء معنوي كان عظيما، وعلى هذا فإن خلق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاق جميع الأخلاق وسبق جميع الشيم، ما من خلق يتصوره المتصورون، ما من خلق يخطر ببال أحد، ما من خلق يمكن أن يشاهده المشاهدون وذلك في الناس جميعا دون استثناء أحد إلا وخلق النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أعظم، وهو أكبر، وهو أسبق، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الباب لا يلحقه اللاحقون، ولا يمكن أن يقارن نصيبه في هذا الباب أحد البتة.
من جوانب العظمة الكبيرة هو أن يجمع الإنسان بين خلقين، أو بين أخلاق قد ترى في الظاهر أنها لا تجتمع، وهذا هو ما يشير إليه القرآن في بلاغة تامة
وأشير هنا إلى جانب واحد من جوانب هذه العظمة الموجودة في الشخصية النبوية، ذلك أن من جوانب العظمة الكبيرة هو أن يجمع الإنسان بين خلقين، أو بين أخلاق قد ترى في الظاهر أنها لا تجتمع، وهذا هو ما يشير إليه القرآن في بلاغة تامة، فيقول سبحانه وتعالى متحدثا عن عباده المؤمنين: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) ذلك أن الشدة مع الرحمة يظهر للناظرين أنها لا تجتمع في شخص، ووضع ذلك الشخص لكل خلق في محله وفي موضعه جانب عظيم من جوانب العظمة، يلين حيث يكون اللين محمودا، ويشتد حيث تكون الشدة محمودة، وذلك فيه إشارة العلماء إلى أن اللين لا يكون محمودا في كل حال، ولا الشدة تكون محمودة في كل حال.
الحِلم والمهابة في السيرة النبوية
فالعظيم هو الذي يجمع كل خلق في موضعه، ويتصرف كل تصرف في المحل الذي لا يليق إلا لذلك التصرف، والعرب كانت تتمدح بهذا الأمر وتقول: العظيم هو الذي يستطيع أن يجمع بين هذين، وفي ذلك يقول شاعرهم المتقدم:
حليم إذا الحلم زين أهله على أنه عند العدو مهــيب
ذلك أن الحلم إذا كثر وعظم وجاوز الحد المحمود، قد ينقلب إلى ضده فيغري أهل الشر على الجسارة، كما أن سطوة الإنسان قد تؤدي إلى نوع من البطش حتى بمن لا يستحق، أو من يكون الحلم عليه أحسن، لكن هذا جمع بين أمرين؛ جمع بين كونه حليما وبين كونه ممن تخشى بوادره عند الأعداء، فيكون مهاب الجانب لا يستطاع الاقتراب من حماه، وهذا الأمر ـ وهو الجمع بين شيئين يظن في الظاهر أنهما في غاية التعارض ـ هو ما ميز الجناب النبوي الشريف، ولي عشرات الأمثلة التي تدل على ذلك، وأسوق بعضها على جهة التمثيل لا على جهة الاستقصاء، من ذلك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يجمع في شخصيته العظيمة بين كونه مهاب الجانب وبين كونه صلى الله عليه وآله وسلم يفتح في شخصيته الكريمة هامشا واسعا جدا جدا للمحاورة والمراجعة ، وأصدق دليل على ذلك الحديث الصحيح المخرج في موطأ إمامنا مالك وفي الصحيحين وفي غيرها من الكتب الحديثية، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة سهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إحدى صلاتي النهار ـ وقيل إنها العصر ـ وأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى ركعتين.
عظمة الشخصية النبوية الشريفة جعلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الهيبة بمكان
وفي قول أبي هريرة: إن أبا بكر وعمر كانا حاضرين فهاباه أن يكلماه معنى الهيبة العظيمة للجناب النبوي الشريف رغم المخالطة التامة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكلاهما صهر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمصاهرة تقتضي المخالطة التامة، والمداخلة الكاملة، وتجرأ الصهر على صهره فيما يتعلق بجانب المناقشة والمفاوضة، ولكن رغم ذلك فإن عظمة الشخصية النبوية الشريفة جعلت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الهيبة بمكان، فغلبت هيبته عليهما، في نفس المجلس وفي نفس الوقت كان هناك صحابي لم يذكر إلا في قصة هذا الحديث.
وهو ذو اليدين رضي الله عنه فوجد في شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم هامشا واسعا جدا للمفاوضة والمحاورة، فعلم ذلك منه فقال له في كلمة في غاية الجرأة أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله، وقال هذا بمحضر جمع كبير من الصحابة منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فهذا دال على أن هذه الشخصية النبوية الشريفة من أعظم جوانب عظمتها هذا الأمر.
النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجمع جمعا تاما في عظمة وجلال بين الانشغال بعظائم الأمور وكبرى القضايا وبين النزول إلى جزئيات الحياة وتفاصيل المعاش
الانشغال بعظائم الأمور وتفاصيل المعاش
مثال آخر يدل على ذلك هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان منشغلا بعظائم الأمور، ويكفي في ذلك أنه كان يلقى جبريل بأمر الوحي، فيأتيه الوحي من عند ربه، وكان صلى الله عليه وآله وسلم في الفترة المدنية يدبر أمر الدولة الإسلامية الحديثة، وكان صلى الله عليه وآله وسلم القائد الأعلى، ويخرج بنفسه في الغزوات، وغزا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة نحوا من ثماني عشرة غزوة شارك في أغلبها، وهذا دال على أنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا قسمت ذلك على سنين مكثه في المدينة كان يغزو أكثر من غزوة في السنة الواحدة، مع ما يتطلبه ذلك من الإعداد ويقتضيه من التخطيط، وكان بالإضافة إلى ذلك سيد العباد، يقوم الليل، في كل ليلة لا تسأل عن طول قراءته وطول ركوعه وطول سجوده، هذا الانشغال الطويل التام إذا كان جزء منه لأحدنا فإنه لا يجد في ذهنه، لا يجد في صدره أي متسع من الوقت لينشغل بأمر يحتل المرتبة الدنيا في سلم الأولويات، وهاهو النبي صلى الله وعلى آله وسلم رغم ذلك نجد من سعة صدره، نجد من حضوره في الواقع، من تتبعه لجزئيات الحياة؛ أنه في الحديث الصحيح يقول لعائشة رضي الله عنها وقد زفت مع غيرها امرأة من الأنصار إلى رجل منهم فقال لها هل كان معكم شيء من اللهو.
فها هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجمع جمعا تاما في عظمة وجلال بين الانشغال بعظائم الأمور وكبرى القضايا وبين النزول إلى جزئيات الحياة وتفاصيل المعاش.
ودلهم صلى الله عليه وآله وسلم على ما يقال في ذلك: “أتيناكم أتيناكم…”، حتى هذا يعرفه ودلهم على أمر عظيم يدل على حضور كبير ومعرفة بالمجتمع وتفاصيل ما فيه، فقال : “إن الأنصار قوم فيهم غزل”، فبان بهذا المثال أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شخصيته يجمع بين أمرين من الأمور يظن أنهما في غاية التناقض.
أكتفي بهذين المثالين فقط، وكما تقول العرب: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق والجناب النبوي الشريف لا يمكن لإنسان مهما أوتي من بسطة في لسانه أن يوفيه حقه.