في رحلة الإمام البوصيري عبر “الكواكب الدريّة في مدح خير البرية”، يتوقف في محطّةٍ هامّةٍ، محطّة التحذير من هوى النفس ومخاطره، ففي الفصل الثاني من قصيدة البردة، يُطلق صرخةً مدويةً تُنادي بضرورة التحرّر من قيود الأهواء، والتمسّك بالعقيدة والفضيلة.
صرخة البوصيري:
يبدأ الفصل الثاني بنداءٍ مُباشرٍ إلى الله تعالى، يُناجي فيه البوصيري ربه راجيًا العتق من قيود النفس الأمارة بالسوء، واصفًا إياها بأنّها “أكبر الفواسق”.
مخاطر هوى النفس:
يُدرك البوصيري خطورة هوى النفس على الإنسان، فيُحذّر من الوقوع في فخّها، ويُبيّن عواقبها الوخيمة، فهي تُبعد الإنسان عن طريق الحقّ، وتُقوده إلى المعصية والضلال.
طلب العون الإلهي:
لا يكتفي البوصيري بالتحذير، بل يُبادر إلى طلب العون من الله تعالى، راجيًا منه الهداية والصبر والتقوى والإيمان والخضوع.
التكرار والتأكيد:
يتكرّر لفظ “لا تُخلّيني” في هذا الفصل، ممّا يُؤكّد على شدّة خوف البوصيري من الوقوع في فخّ الأهواء، ورغبته العارمة في التمسّك بالعقيدة والفضيلة.
جمال اللغة وبلاغتها:
يُتميّز هذا الفصل بجمال اللغة وبلاغتها، فاستخدام الأفعال القوية كـ “أعتقني” و “لا تُخلّيني” يُضفي على النصّ شعورًا بالقوّة والرغبة في التغيير.
دروس وعبر:
يُقدّم لنا هذا الفصل درسًا هامًا في ضرورة مراقبة النفس ومحاربة أهوائها، فالتمسّك بالعقيدة والفضيلة هو السبيل الوحيد للنجاة في الدنيا والآخرة.
ختامًا:
يُعدّ الفصل الثاني من قصيدة البردة صرخةً مدويةً في وجه هوى النفس، يُحذّرنا فيها الإمام البوصيري من مخاطرها، ويُرشدنا إلى طريق النجاة من قيودها.
قصيدة البردة
فَإنَّ أمَارَتيْ بِالسُّوْءِ مَا اتَّعَظَـــتْ … مِنْ جَهْلِهَا بِنَذيْرِ الشِّيْبِ وَالْهَـــرَمِ
وَلا أعَدَّتْ مِنَ الفِعْلِ الجَمِيلِ قِـرَىْ … ضَيْفٍ أَلمَّ بِرَأسِيْ غَيْرَ مُحْتَشِـــمِ
لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أنِّي مَا أُوَقِّـــرُهُ … كَتَمْتُ سِراً بَدَا لِيْ مِنْهُ بِالكَتَــمِ
مَنْ لِيْ بِرَدِّ جِمَاحٍ مِنْ غَوَايَتِهَـــا … كَمَا يُردُّ جِمَاحُ الخَيْلِ بِاللُّجُــــمِ
فَلاْ تَرُمْ بِالمعَاصِيْ كَسْرَ شَهْوَتِهَـــا … إنَّ الطَّعَامَ يُقَوِّيْ شَهْوَةَ النَّهَـــمِ
وَالنَّفَسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى … حُبِّ الرِّضَاعِ وَإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِــمِ
فَاصْرِفْ هَوَاهَا وَحَاذِرْ أنْ تُوَلِّيَــهُ … إِنَّ الهَوَى مَا تَوَلَّى يُصْمِ أو يَصِـمِ
وَرَاعِهَا وَهْيَ فِيْ الأعْمَالِ سَــائِمَةٌ … وَإنْ هِيَ اسْتَحَلْتِ الْمَرْعَى فَلا تُسِمِ
كَمْ حَسنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاْتِلَــةً … مِـنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أنَّ السُّمَّ فِي الدَّسَـمِ
وَاخْشَ الدَّسَائِسَ مِنْ جُوْعٍ وَمِنْ شِبَعٍ … فَرُبَّ مَخْمَصَةٍ شَرٌّ مِنَ التُّخَـــــمِ
وَاسْتَفْرغِ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنِ قَدِ امْتَلأَتْ … مِنَ المحَارِمِ وَالزَمْ حِمْيَةَ النَّـــدَمِ
وَخَالِف النَّفَسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا … وَإنْ هُمَا مَحْضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِـــمِ
وَلا تُطِعْ مِنْهُمَا خَصْماً وَلاْ حَكَمـــاً … فَأنْتَ تَعْرِفُ كَيْدَ الخَصْمِ وَالحَكَــمِ
أسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ قَوْلٍ بِلا عَمَــــلٍ … لَقَدْ نَسَبْتُ بِهِ نَسْلاً لِذِيْ عُقـــــُمِ
أَمرتُكَ الخَيْرَ لَكِنْ مَا ائْتَمَرْتُ بِـهِ … وَمَا اسْـَتقَمْتُ فَمَا قَوْلِي لَكَ اسْتَقِـمِ
وَلا تَزَوَّدْتُ قَبْلَ المَوْتِ نَافِلَـــةً … وَلَمْ أُصَلِّ سِوَىْ فَرْضٍ وَلَمْ أَصُــــمِ