ملامح الجمال المحمدي في الرؤية الصوفية
فضيلة الأستاذة سناء بن سلطن
يعد الجمال المحمدي في الرؤية الصوفية منبع ومصدر الجمالات كلها، فهو الباب الموصل للجمال الحقيقي، ومفتاح الدخول إلى جمال الحضرة؛ إذ منه انشقت الأسرار، وانفلقت الأنوار؛ لذا كان التغني والانتشاء بالجمال المحمدي أصل أصيل في الكتابات الصوفية النثرية منها والشعرية.
فما هي، بإجمال، ملامح الجمال المحمدي في الرؤية الصوفية؟
لقد اجتمع أهل المغارب والمشارق على التَّوَلُّه والهيمان بالجمال المحمدي أصلِ الجمالات كلها، باعتباره إفاضة نور من الجمال الإلهي؛ فنظموا القوافي، وقرضوا المطولات، وألّفوا كتب الشمائل من أجل تعداد محاسنه الخُلقية والخِلقية لتسجيل محبتهم وتعلقهم بأذيال فضله العظيم، وجماله الباهر الذي يسبي العقول، ويدهش الألباب؛ فكانت لهذه النصوص المديحية أهمية بالغة في الأوساط الإسلامية، وبين محبِّي رسول الله . والتي اكتسبت قيمتَها وشرفَها من شرف ممدوحها؛ فحظيت بكثير من الشروحات، والتخميسات، والمعارضات، بل أصبح يُتغنى بها في حلقات الذكر والسماع، في الأعياد والمواسم، وكذا في الأفراح والأتراح، بتلاحين وتنغيمات متعددة، وكل ذلك التذاذا وانتشاءًا بالجمال المحمدي الذي لا ولن يستطيع واصفوه تعداد أوصافه وعلاماته الجمالية التي فاقت كل حسن وجمال.
فانقسم بذلك مادحوه –حسب ابن عجيبة– إلى قسمين: «قسم مدحوا شخصه الظاهر فذكروا ما يتعلق بجماله الحسي، وقسم مدحوا سره الباطني ونوره الأصلي فذكروا نوره المتقدم، وما تفرع عنه من التجليات الحسية».
فكيف إذن تناول هؤلاء المادحون جماله بشقيه الحسي الظاهر والأصلي الباطن؟
1- النور المحمدي وجمالُه الأصلي
تعرض أصحاب هذا القسم في مدائحهم وتوسلاتهم وصلواتهم إلى الجمال المحمدي الفائض والساري نوره في سائر الجمالات، ووقفوا عند هذه المسألة بالتأكيد والتفصيل والإقرار؛ سواء شعرا أو نثرا، لإيمانهم ويقينهم بحقيقة وأصل النور المحمدي الذي ليس في الحقيقة إلاّ إفاضة نور من جمال الحق.
قال محمد بلعربي الدلائي الرباطي، تلميذ الشيخ الحراق وأحد “وارثي أسراره“:
إِفَاضَةُ نُورٍ مِن جَمَالِ إلاَهِنا تَجَلَى بها الوَهَّابُ فَيْضاً مُؤَبَّداً
وأبْدَعَها لُطْفاً كمالُ اقْتـِدارِه وقَالَ لَهَا الرَّحْمَنُ كُونِي مُحمَّداً
وهذه الإفاضة هي ما تسمى عند الصوفية بالقبضة المحمدية أو “الحقيقة المحمدية“، ومجملها أنه كان لمحمد وجود قبل وجود الخلق وقبل وجوده الزماني في صورة النبي المرسل، وأن هذا الوجود قديم غير حادث، وعبَّروا عنه بالنور المحمدي، فهي الذات مع التعيّن الأول، الذي فاضت منه بعد ذلك بقية التعيّنات الأخرى. يقول الشيخ “محمد الحراق” في شرحه للصلاة المشيشية: «… عَالَمُ النور المقتضب من الذات هو الحقيقة المحمدية، وكل ما ظهر به من الصفات، فهو مظهر الجمال المصطفوي». ولعل الحديث النبوي الشريف المروي عن جابر بن عبد الله يؤصل لحقيقة أنه أصل الأنوار ومنبعها، فقد روى عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله ، قال: «قلت يا رسول الله، أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء، قال: يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيّك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة، حيث شاء الله تعالى، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء، ولا أرض ولا شمس ولا قمر».
ونظرا لوعي الصوفية بهذه الحقيقة النورانية لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، فقد تفنّنوا وأبدعوا في تصوير تلك المعاني تصويرا بديعا؛ فهذا إمام المادحين “شرف الدين البوصيري” يقول في “همزيته“:
أَنْتَ مِصْبَاحُ كلِّ فَضْلٍ فَمَا تَصْــ دُرُ إلاَّ عَنْ ضَوْئِكَ الأضْوَاءُ
مؤكدا الحقيقة الإيمانية واليقينية بأن «ما ظهر في الكون نور وضياء مطلقا في كل عصر وفي كل محل من العالم إلا عن ضوئك ونورك. فكل الوجود مستمد من نوره مطلقا، فما تصدر إلاّ عن ضوئه الأضواء…».
وهي الحقيقة التي قررها أيضا الشيخ “محمد الحراق” شعرا لما قال:
فَنُورٌ سَرَى فِي الكَوْنِ صُورَةَ أَحْمَدٍ بِـهِ تَهْتـَـدِي لله كُلُّ بَصِيرَةِ
فَهُوَّ الهُـدَى وَالنُّـورُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ على ذَاتِهِ تُجْلَى مَعَانِي الحَقِيقَةِ
أو في قوله:
مَشَارِقُ الكَـونِ والمَغَارِبْ كُـلٌّ إلى نُـورِكَ افْتَقَـرْ
ونثرا بقوله: «… فلا حقيقة من حقائق المكوّنات إلاّ وهي مستمدة من الحقيقة الأحمدية، فهي السراج الذي أسرجت منه جميع الأنوار، والمعدن الذي صيغت منه جميع الأسرار صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا».
لقد شبه الشيخ “الحراق” الحقيقة المحمدية بالسراج، ولم يشبهها لا بالشمس ولا بالقمر؛ لكون نورهما يغيب بأفولهما، والحقيقة المحمدية لا ينقطع نورها أبدا، قال تعالى في حق رسوله الأعظم: وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
ولما كان الرسول أصلَ الأنوار، ومعدنَ الأسرار، والحجابَ الأعظم، فقد تقاصرت في إدراك حقيقته الفهوم، وعجزت عن الإحاطة بمعناه العقول، يقول “ابن مشيش” في صلاته: «وتضاءلت الفهوم، فلم يدركه منا سابق ولا لاحق». فكيف يدرك –حسب الشيخ “الحراق“- أحد حقيقة أحمد وهو “سر صون الذات“. يقول في التائية:
فكيفَ يرى خلْقٌ حقيقــةَ أحمــد ولكن يرى ظِلا من البشريــــةِ
لأنه صَونُ السِرّ بَلْ سرُّ صونِهِ والأنوارُ طُرا من سَناه استمدتِ
فظل من البشرية «صورته التي أبرزها الله عز وجل في هذا العالم، وأرسلها رحمة للعالمين». أما حقيقته الأصلية لا يدرك كُنْهَها أحد من العالمين.
2- النور المحمدي وجماله الحسي
إذا كانت الحقيقة الأحمدية النورانية الأصلية،كما تم تبيانه، لا يدرك كنهَها أحد؛ فإن جماله الحسّي أيضا لا يحيط به أحد؛ لأنه جاوز الحد والوصف، يقول عمر ابن الفارض:
وَعَلى تَفَـنُّنِ واصِفيهِ لِحُسْنهِ يفنَى الزمَانُ وفيهِ مَا لَمْ يوصَفِ
بمعنى أنه مهما تفنَّنَ الواصفون في وصف محاسن جماله فإنهم لن يصلوا إلى استيفاء حقيقة هذا الجمال المتصل باللانهائي، لكن رغم يقينية هذه الحقيقة عند هؤلاء الواصفون والمادحون فإن ذلك لم يمنعهم من الإفاضة في ذكر محاسنه لتعلقهم بجنابه الرفيع، وشوقهم الدائم له، ورغبتهم في إشباع حاجة كافة المحبين «لمعرفة شكل رسولهم الممجّد، وتشكيل صورة له في أذهانهم وأحلامهم…»2، لذا تعدّ نصوص المدائح النبوية بمثابة نصوص تمجّد رسول الله وتحتفي به، وتنبه كذلك إلى قدره السامي من خلال رسم صورة تقارب فائق جماله ورائق كمالاته.
إلا أن جماله كان محاطا بجلال وهيبة؛ هذه الهيبة التي تأخذ بألباب كل من رآه. ولقد وردت أخبار كثيرة في هذا المعنى، منها أن رجلا دخل عليه فأصابته من هيبته رعدة، فقال : «هوّن عليك، فإني لست بملِك، إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد»3. هكذا نقرأ في ضوء هذا الحديث أنه جامع من جهة؛ بين الجلال والهيبة اللذين ظهرا أثرهما على الرجل حين طالته الرعدة والرعشة عند رؤيته ، ومن جهة أخرى بين الجمال والمحبة وحسن الخلق، لما هوّن من روع هذا الرجل حين قال له: «لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد».
فالله سبحانه وتعالى كسا حبيبه المصطفى لباس المهابة والجلالة في الظاهر ليحجب جماله الفائض رحمة ورأفة بالناظرين إليه؛ فهذا “حسان بن ثابت” شاعر الرسول يصور لنا لحظة رؤيته للرسول الأعظم حين يقول:
لمـَّا نظرتُ إلـــى أنـــوارِهِ ســـَـطعَتْ وَضَعْتُ مِن خِيفَتِي كَفي على بَصَرِي
خَوْفاً على بصَري مِن حُسْنِ صُورَتِه فـَلَسـْــــــتُ أَنْـظـــرُه إلاَّ عـلــى قـَـدَرِ
وقد كساه الحق كذلك سبحانه وتعالى كسوة الهيبة والعظمة وقاية من الافتتان به، وهذا ما لمَّح له مَدَّاح الرسول “البوصيري” لما قال:
سُتِر الحُسنُ مِنهُ بالحُسنِ فاعْجَبْ لجمالٍ لَهُ الجَمـَـــالُ وِقـَـاءُ
ذلك أن الهيبة كما يذهب “أحمد التيجاني” في شرحه لهذا البيت: «هي من أكبر أوصاف الجمال، فهي التي سترت جماله حتى لم يفتن به أحد».
وهو ما انبرى للتعبير عنه نظما كذلك “ابن الفارض” حين قال:
بجمـَـالٍ حَجَبْتَهُ بجَلاَلٍ هامَ واستعذَبَ العذابَ هُناَكَ
ومن أجل بيان هذا المعنى نجد المادحين يستحضرون فتنة زليخا وعواذلها بجمال سيدنا يوسف عليه السلام، الذي كان محط افتتان وغواية، ليميزوا عنه جمال رسول الله الذي أحاطه الله تعالى بقدسية تامة.
وهذا ما يفسر حضور جمال سيدنا يوسف عليه السلام في كثير من الأشعار التي نظمت وقرضت في وصف الجمال المحمدي؛ ذلك أن جمال سيدنا يوسف عليه السلام يمثل أعلى مرتبة للجمال الإنساني كما صوّره لنا القرآن الكريم؛ هذا الجمال الذي وصل إلى درجة الفتنة، بحيث افتتن به كل من رآه من النسوة. لذا كانت الغاية من الحديث عن البهاء اليوسفي في ثنايا أشعار المديح النبوي إبرازَ جمال سيدنا محمد الفائق لكل حسن وبهاء.
وقد تفنن الواصفون في إبراز وإظهار صغر قَدْرِ الجمال اليوسفي وتواضعه أمام الجمال المحمدي؛ فمن قائل إن البهاء اليوسفي غلام أمام جمال وحسن سيدنا محمد:
ما البَهَا اليُوسُفِيُّ إلاَّ غلامٌ حينَ نَذْكُرُ حُسْنَهُ الأَحْمَدِيَا
ومن قائل إن سيّدنا يوسف عليه السلام أُعطي نصف الحسن، وبه افتتنت النسوة، وسيدنا محمد أعطي الجمال كله، وهو جمال مصون بقدسية تامة:
يوسفُ الحسنِ أُعطِيَ النصفَ منه وبذاكَ النصفِ افْتَتَن النِسَاءُ
وحبــــَــــــاهُ اللهُ الـجميــــعَ و لـكن ما جَلاَهُ للناظِرِين اجْتـِــلاَءُ
ومن ذاهب إلى حد القول إن أهل مصر لو ذكروا لهم جمال وحسن “خدِّ” رسول الله ما ساوموا في ثمن يوسف عليه السلام، وإن عواذل زليخا لو شاهدن جبينه لآثرن قطع القلوب على قطع الأيدي، لنقرأ هذه النتفة الجميلة:
فلو سَمعوا في مصرَ أوصافَ خدِّه لمَا بَذَلُوا في سوم يوسفَ من نقدِ
لواحــي زليخـــا لـــو رأين جبينَـه لآثرنَ بالقطع القلوبَ على الأيدِ
كما نقرأ لسلطان العاشقين “ابن الفارض” في “فائيته“؛ أن يعقوب عليه السلام لو ذكروا له بعض محاسن رسول الله لنسيَ جمال ومحبة يوسف عليه السلام.يقول:
لو أَسْمَعوا يعقوبَ ذكرَ ملاحــــةٍ في وجهه نسيَ الجمالَ اليوسُفِي
إنه غيض من فيض النصوص التي تحكي تعلق وهيام أصحابها بحسن وبهاء سيدنا محمد ، حتى إن بعض المتولهين بجماله عليه السلام فسر سجود الملائكة لسيدنا آدم برؤيتهم النور المحمدي – الذي هو في الحقيقة إفاضة نور من الجمال الإلهي– متجليا على وجه آدم، وهو ما حُرم منه الشيطان؛ إذ لو أبصر هذا النور على وجه آدم لكان أول من اشتهر بالسجود. ذاك ما نلفيه لدى “علي ابن وفا الشاذلي” في قوله:
لو أبصرَ الشيطانُ طلعةَ نورِه في وجه آدمَ كان أولَ من سجَد
ونفس هذا المعنى نجده في مدونة الموسيقى الأندلسية المغربية؛ حيث يتغنى المنشدون بموشحة في مدح المصطفى مطلعها:
لَو رَآهُ ابليسْ بالسُّجودِ اشْتَهَرْ
ولَو لمْ تَكُنْ في وَجْهِ آدَمَ عَينُهُ |
لمَا سجدَ الأمـلاكُ وهْيَ خَوَاضِعُ |
كما نقرأ في ذات المعنى أبياتا لـ“عبد الكريم الجيلي” في قصيدة “النادرات العينية” يقول فيها:
و
إ
وإجمالا، فمهما وصف الواصفون، ومدح المادحون؛ فإنهم لن يبلغوا حقيقة حسن المصطفى ؛ لأن جماله عليه السلام جاوز الحد والوصف. والإقرار بهذا القصور أمر ما فتئ شعراء المديح يعبرون عنه ويذكِّرون به في مدائحهم. فهذا “ابن الفارض” يقول في نتفة شعرية بديعة:
أرى كلَّ مَدْحٍ في النبيِّ مُقَصِّرَا |
وإن بَالغ المُثْنِي عليه وأكثرَا |
ونقرأ كذلك في “المجموعة النبهانية” قول “يوسف بن إسماعيل النبهاني“:
أَجْمَلُ العــالمين خَلْقاً وخُلْقـا |
مــالَهُ في جمــالِه نُظـرَاءُ |
وهذا القصور والعجز هما اللذان أشار إليهما ببراعة وبلاغة مَدَّاح الرسول الإمام “البوصيري” في هذا البيت:
إنَّ مِنْ معجزاتِكَ العَجْزَ عَنْ وصفِـ ـكَ إذ لا يَحُدُّهُ الإحْصَـاءُ
إلا أن هذين العجز والقصور لم يكونا ليثنيا الشعراء عن قرض المدائح النبوية، بل ما فتئ يزيدهم ظمأ وعطشا للارتواء من البهاء المحمدي3.
هكذا يحضر الجمال المحمدي باعتباره مظهرا من مظاهر الجمال والكمال، ذلك أن الصوفية وهم يتغنون بهذا الجمال ويعبرون عن شغفهم به ظاهرا وباطنا، إنما كانوا يسعون إلى استحضار النموذج المحمدي في عرفانهم وسلوكهم؛ في نصوصهم وسماعهم؛ في تسليكهم ومنهج التربية لديهم.