-اللمعة 9- آيات وخوارق صاحبت مولدَه صلى الله عليه وسلم

فضيلة الأستاذ محمد التهامي الحراق
“زين اللهُّم ظواهرَنا وبواطننا بأنوار الصلاة والسلام، على خيرِ من طاب به الافتتاح وتعطر بطيب الثناء عليه المجلسُ ولذ به الاختتامْ، سيدِنا وسندنا ومولانا محمد أفضلِ موجودٍ وأكمل مولودٍ وتاج الرسُل الكرامْ. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، صلاةً تُغرقنا بها في بحر مودته وحبِّه، وتجعلنا بها من كُمَّل طائفته الناجية وحزبِه“.
* * *
يكشف لنا النصُّ الوصفيّ النفيسُ للفشتالي، والذي وقفنا عليه في إضاءاتنا السابقة عن تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي بالمغرب؛ يكشف لنا هذا النصُّ عن قمةِ ما وصل إليهِ السعديون في العنايةِ والاحتفاءِ بالمولد النبوي الشريف. وهو ما تطوَّرَ وازدهرَ في عهد الدولةِ العلوية، حيث عرفَ العهدُ العلويُّ تقاليدَ واحتفاءاتٍ واحتفالاتٍ باذخة، فصَّلَ في بعضها مؤرخُو المملكة الشريفة، كما نقف على نماذج من ذلك مع المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان في كتابه “العز والصولة“، والمؤرخ الضُّعَيِّفْ الرباطي في “تاريخه“، و الذي كتبَ واصفاً احتفال السلطانِ سيدي محمد بن عبد الله بالمولد الشريف، فقال: “وفي ليلة المُولُود (1199هـ)، وَرَدَ عليه أهلُ فاسَ مع الحاج عبد الرحمان بن زكري، ليقرأوا له الهمزيةَ والبردةَ وغيرَهُما من القصائد، وأخذ ابن زكرِي في تزيينِ الجامِعِ بالمصابيحِ، ثم وردت عليه طلبةُ تطَّاون لإقراءِ القصائدِ أيضا، ففرَّقَ المالَ على أهلِ الرباطِ وأهلِ سلا نحو القنطارين أو أزيَد، وأمَرَهُم يصنعوا الطعامَ ويأتوه بهِ للجامِعِ المذكور، من الدجاجِ والمروزية والكعك والمقروط والحلوة الشباكية وغير ذلك، وبَعَثَ الزَرَابِيَ من دارِهِ وفُرُشَ الجامِع، ثم جلسَ أهلُ فاسَ أمام أهلِ تطاون؛ وذلك ليلة العيد، ثم خرج السلطانُ من داره وجلس بينهما. وقال لهم: قولوا:
بانتْ سعادُ فقلبيَ اليومَ متْبُولُ مُتَيَّمٌ إِثْرهَـا لم يُفْـدَ مَكبُـولُ
فشرعوا في ذكرها وهي قصيدةُ كعب بن زهير، ثم كانوا يذكرون جميعا ، وبعد ذلك أمَرَهُم السلطان بالذكر، فيذكُرُ أهلُ فاس ساعةً وأهل تطَّاون ساكتون، ثم يذكر أهل تطاون وأهل فاس صامتون. وفي صبيحةِ يوم العيد خرجَ السلطانُ خارج المدينةِ وأهلُ فاس وتطاون راكبينَ على بغالهم، وهم يذكرون البردةَ بأحسنِ الطبوع، ثم لعب السلطان أيده الله بالمِزْرَاق، ثم فرق المال على الفقهاءِ والطلبة والمجاهدين“.
* * *
وتداعى إيـــوان كـــسرى ولولا آية منك مـــــا تداعـــى البنـــــاء
وغدا كلُّ بيــت نــــار وفيــــه كربـــــة من خمــــودها وبــــلاء
وعيون للفرس غارت فـــهل كــا ن لـــنيرانهـــم بهــــــا إطفــــــاء
مولد كان منــه في طالــع الكفــــ ر وبــــــالٌ عليهـــــمُ ووبـــــاء
هذه الأبياتُ الجميلةُ من همزية الإمام البوصيري، نموذج لكلام المحبينَ الذي يستعرِضُ الخوارقَ التي صاحبت ولادَتَه صلى الله عليه وسلم، وهي خوارق تواترت بها الأخبارُ، باعتبارها علاماتٍ كونيةً على ظهورِ طلعة هذا النبي الكريم . و من هذه الخوارق، كما يصِفُ ذلكَ القاضي عياض في كتابه “الشفا بتعريف حقوق المصطفى“: «منها ارتجاجُ إيوانِ كِسْرى، وسقوطُ شُرُفاتِه، وغَيْضُ بحيرةِ طبَرِية، وخمودُ نارِ فارس، وكان ألفُ عام لم تَخْمُدْ»، فضلاً عن العجائب التي اقترنت بوضعه مثل تشميتِ الملائكةِ له عند عطسه، كما أخبرت بذلك قابِلَتُُه الشّفَّاء، وولادتِه رافعاً رأسَهُ، شاخصا ببصرِه إلى السماء، وما رأته أمهُ من النورِ الذي خرجَ معهُ عندَ ولادتهِ، وما رأتهُ أم عُثمان بنِ أبي العاص من تدلِّي النجوم إليه وظهورِ النور الدافق عند ازدياده، نقرأ في همزية الإمام البوصيري:
شَـمَّـتَـتْـهُ الأَمْـلاَكُ إِذْ وَضَـعَـتْهُ *** وَشَـفَـتْـنَا بِـقَـولِهَــا الـشَّــفَّاءُ
رَافِعـاًرَأْسَـهُ وَفِــي ذَلِكَ الرَّفْ *** عِ إِلَـــى كُـلِّ سُــؤْدَدٍ إِيــمَـــاءُ
رَامِقـاً طَـرْفُـهُ الـسَّـمَاءَ وَمَرْمَى *** عَـيْـنِ مَـنْ شَـأْنُـهُ الْعُـلُـوُّ الْـعَلاَءُ
وَتَـدَلَّتْ زُهْـرُ الـنُّـجُـومِ إَلَــيْهِ *** فَـأَضَـاءَتْ بِـضَوْئِهَا الأَرْجَاءُ
وَتَـرَاءتْ قُـصِورُ قَـيْـصَـرَ بـالـرُّو *** مِ يَـرَاهَــا مَـنْ دَارُهُ الْـبَــطْـحَاءُ
إنها علاماتٌ وبِشَارَاتٌ على حدثٍ استثنائي عرفتهُ البشريةُ في القرن السادس للميلاد، وهو ازديانُ الوجود بخيرِ مولود، نخبةِ الأصفياءِ وخاتم الأنبياء، المصطفى المحبوب صلى الله عليهِ وعلى آله وسلّمً.