-اللمعةُ 1- الفرح بقدوم شهر الربيع النبوي

فضيلة الأستاذ محمد التهامي الحراق
“زينِ اللهُّم ظواهرَنا وبواطِنَنَا بأنوار الصلاة والسلامْ، على خيرِ من طاب به الافتتاحُ وتعطر بطيب الثناء عليه المجلسُ ولذ به الاختتامْ، سيدِنا وسندِنا ومولانا محمد أفضل موجود وأكمل مولود وتاجِ الرسُل الكرامْ. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبهْ، صلاةً تُغرقُنا بها في بحر مودته وحُبِّهْ، وتجعلُنا بها من كُمَّل طائفته الناجية وحزبِه”
* * *
هذا ربيـــعٌ قد أتــاكَ مـُــبشِّرا بقدومِ مولدِ خير من وطِئ الـــثَّرَى
لا شكَّ فيـــه أنـه فــي فضلــِهِ بين الشهورِ كمِثْلِ أحمدَ في الورى
وافاكَ يزهُو بين أشهرِ عامِهِ مـــــــــــــتهللا مُتـدَلّلا ً مـُــتَبَــخْتِرَا
بَهَرَ الشهــورَ بليلــةٍ نبـــويةٍ ضَــــمِنَت له آياتُهــــا أنْ يــَـــبْهَرَا
أَرِجَ الزَّمَانُ بذكره فـــكأنَّ في الأفــــواهِ مِنْ ذكراه مـِـــسْكاً أذْفرَا
ما أبهاها من مناسبة؛ وما أرفعها من ذكرى، و ما أزهاها من أيام؛ لحظاتٌ لا كاللحظات، وشهرٌ لا كالشهور؛ فيه تتحركُ الأشواقُ، وتنتشي الأرواحُ، وتنصقلُ القلوب، بذكر أنوار وشمائلِ وخصائصِ وكمالات المصطفى المحبوب، صلى الله عليه وآله وسلم. واغتناماً لفضائل هذه الأيام سنُخصص لمعاتٍ لهذه المناسبة الغراء، حيث سنحاولُ خلال كلِّ لمعةٍ من هذه اللمعاتِ المولِدية الإحدى عشرة، – بحول الله- أن نجمع بين تقديم إضاءات تاريخية حول احتفال المغاربة بالمولد النبوي الشريف، وبينَ الوقوف بإيجازٍ عند أبرز المعاني التي تحضر في كلام المُحبين، و المُنشَدِ من لدن المغاربة في نصوصِ المولديات النثرية والشعرية.
* * *
من المعلوم أن الاحتفال بالمولد النبوي الكريم قد ظهر وانتعش رسميا في البلاد الإسلاميةِ منذ عهد الفاطميين بمصر وتونس. كما أن مكةَ المكرمة كانت تحتفي بهذا العيد، حيث يَنقلُ لنا الرحالةُ الأندلسي ابن جُبَيْر في “رحلته” عام 579هـ أن مشهدَ مَوْلدِ الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة يُفتحُ في شهر ربيع الأول يوم الاثنين تحديدا، فيدخله الناسُ كافة. ويضيفُ قاضي سبتة أبو العباس العَزَفِي في كتابه “الدر المنَظَّم في مولد النبي المعَظَّم”، والذي سنأتي على ذكر سبب تأليفه لاحقا، يضيفُ أن يومَ المولد كان يُتخذُ عطلةً عامة بمكة المكرمة، وتُفتح فيه الكعبةُ المشرَّفةُ ليَؤُّمَّها الزوار.
وإذا كان بعضُ الباحثين يُعيِّنُ القرنين السادس والسابع الهجريين كتاريخٍ لظهور الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف، فإن غيرَهم يؤكدُ “أن العباسيين احتفلوا به طوال مختلِف عهودهم، وأن العلويينَ وآلَ البيتِ عامةً قد احتفلوا به حتى قبل قيام الدولة العباسية”. وممن احتفلَ بالمولدِ النبوي الشريف خلال القرن السابع الهجري، الملكُ مُظَفرُ الدين بنُ زينِ الدينِ علي بنِ بَكْتَكِينِ أميرُ إِرْبِل (وإِربِل مدينةٌ تقع جنوبي شرقي الموصل بالعراق). وقد زارَ هذه المدينة ابنُ دِحْيَةَ السبتي، وهو من كبار علماء المغرب في عصرِ الموحدين، وحين رأى احتفالَ الملكِ مظفر الدين وولَعَه بعمَلِ المولد النبوي الشريف، ألَّفَ له كتاباً بعنوان: “التنويرُ في مولدِ السراج المنير”.
* * *
كلما هلَّ شهرُ ربيعٍ الأول، تَوَقَّدتْ له فرحةٌ خاصةٌ في قلوب المحبينَ للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وسرت في أوصالهم لهفةٌ متجددة لقراءة سيرتِه عليه السلام، وسردِ خصائصِه، وتدارُسِ شمائِله الخِلقيةِ والخُلُقية، واستحضارِ مكارمهِ وكمالاتهِ، و استدعاءِ أطوار بعثتهِ ومراحلِ انبجاسِ رسالتهِ، وذلك استرواحاً للنفوس، وتذكيراً للعقول، وتنبيها للألباب، وتشويقاً للقلوبِ، وتعبيرا عن محبته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ” قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (آل عمران، الآية 31). و قال صلى الله عليه وسلم: “لا يُومنُ أحدُكُمْ حتى أكونَ أَحبَّ إليهِ من ولدِه و والدِهِ والناسِ أجمعين”. لذلكَ، يُفصِحُ المحبونَ عن مزيدِ فرحهم بالمصطفى صلى الله عليه وسلم عند إشراق هلال ربيع الأول، فيرحبون بهذا الشهرِ الكريم، ويستبشرون لطالعهِ، ويعتبرونه من أجل وأرفَعِ و أشرف الأزمان، فهو شهرُ السُّعودِ والتهاني، لكونِه شَرُفَ باحتضانه لمولد زينِ البدورِ وأفضلِ العالمينَ و خير الأنام:
مرحبـــــــــــا أهــلا وسهـلا بـك يــــا شـهر الـــسعــــودْ
جـــئت يــــا شهرَ التهــــانــي بالــــــهنـــا طـــولَ الـــدوامِ
جئتَ يــــا خـــير الـــشهـــــورْ مـــولــــدُ الـــزَّيْنِ البــــدورْ
قد شفــــى كــل الـــصــــــدورْ النبــــي روحُ الوجـــــــــودْ
بل إن الشاعر المحب ابنَ الصباَّغ الجُذامِي الذي أبدع في المولديات الشعرية أيما إبداعٍ، خلال عهد الخليفةِ المُرتضَى الموَحِّدي، هذا الشاعرُ المحِبُ وفي صورةٍ شعرية رائقةٍ، شبَّهَ أفضليةَ شهرِ الربيع بين الشهور بأفضليةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم بين الورى، حيث أنشأ يقول:
هذا ربيـــعٌ قد أتــاكَ مــُـبشِّرَا بقدومِ مولدِ خير من وطِئَ الـــثَّرى
لا شك فيـــهِ أنـه فــِي فضلــه ِ بين الشهورِ كمِثْلِ أحمدَ في الورَى
ومن ثمَّ لم يكنِ الفرحُ بقدومِ شهر ربيعٍ الأول، سوى مظهرٍ من مظاهرِ الفرحِ بظهور طلعة نبي الرحمة و هادي الأمةِ، في هذا الزمن الكريم الذي حظي بولادة صاحبِ الخُلُقِ العظيم. فصلواتك ربي على الحبيب المصطفى وعلى آله و صحبه وأهلِ المكارمِ والوفا.