-اللمعة 10- قطوف من سيرة طفولته صلى الله عليه وسلم
فضيلة الأستاذ محمد التهامي الحراق
“اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق من التَّعَيُّنَاِت العينية، والخاتِم لمَا سبق منها في علم ذي الجلال“.
* * *
رأينا في إضاءتنا التاريخية للمعة الماضية مع نص الضُّعَيِّف الرباطي نموذجاً للاحتفال المولدي في العهد العلوي على المستوى الرسمي، وتحديداً على عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله. أما على المستوى الشعبي، ففي هذه المناسبة أصبحَ يَكثُر في هذا العهدِ تدارسُ وتَدريسُ السيرة النبوية في المساجدِ والمزارات والزوايا والبيوتات الخاصة، يَصحبُها ترتيلُ المدائحِ النبوية بأحلى التلاحين وأزهى الترانيم. وصارت تُقامُ حفلاتُ ختان الأطفال في القرى والمدن. كما عرفت هذه المناسبةُ، بعد الاستقلالِ، إحياءَ العديد من التقاليدِ الحميدة كتوريق “كتاب الشفا” للقاضي عياض في المساجد والزوايا خلال الأيام الإحدى عشرة من ربيع الأول، والعنايةِ بِالأطفالِ وإكرامهم، وتنظيمِ مواسمَ دينية و مجالسِ ذكر ومديح في مختلف بقاع المملكة. يواكبُ ذلكَ اجتماعياً انتعاشُ الخياطة التقليدية بإقبال الناسِ على إعداد أجملِ الثياب التقليدية لصبيحة المولد الشريف، وتجهيزُ أرفعِ الحلويات والعجائن، مع عناية استثنائيةٍ بمأكولاتٍ مخصوصةٍ بفطورِ يوم العيد؛ والتي تُعَبِّر رمزياً عن صدى الفرح بمولد الرسول الأكرم في الوجدان الثقافي المغربي. وتمتدُّ هذه الاحتفالاتُ وما يواكبُها من تدارس وإكرام وإطعام وإطرابٍ في مختلف الزوايا والمشاهِدِ والبيوتات على امتدادِ شهر الربيع النبوي، مع تمييز سابع العيدِ باحتفاءٍ متفرد. وما تزال طقوسُ هذه الاحتفالات ومؤثِّثَاتـُها و رموزُها اليوم في مسيسِ الحاجة إلى التوثيق و التدوينِ و الوصف والدراسة والتحليل.
وعموما، فإن من مرامِي امتدادِ وازدهار وتوهُّجِ الاحتفالِ بالمولد النبوي الشريفِ في المغرب، رسميا وشعبيا على مدى قرونٍ، استدامةُ الفرحِ بالمصطفى صلى الله عليه وسلم لِمَا فيه من عظيم المكارم و سَمِيِّ الآثارِ، ورفيعِ المقاصِد.
* * *
فأتتــــــهُ من آلِ سعـــــدٍ فتـــاةٌ قد أبتهَا لفقرهــَــا الرُّضعـــاءُ
أرضعتـــهُ لبـــانَهــا فسقتـهـــَا وبنيهــَـــا ألبــــانهنَّ الشَّـــاءُ
أصبحت شولاً عجـافاً وأمـستْ ما بهـــا شــائِلٌ ولا عَجفــــاءُ
أخصبَ العيشُ عندها بعد محلٍ إذْ غدا للنبــــيِّ منهــا غِـــذاءُ
يا لها مِنَّةً لقد ضُـــوعفَ الأَجْـ ـرُ عليها مِن جنسها والجزاءُ
وإذا ســَــــخّر الإلــهُ أنـــاســـاً لسعيــــدٍ فــإنهــــمْ سُعــــَـداءُ
إنه أسعدُ خلقِ اللهِ، من جاء البشريةَ بطريقِ السعادة في الدنيا والأُخرى، وكان من أوائلِ السعداءِ نسوةٌ تشرفنَ بإرضاعهِ وسقيِه. وأول من أرضعتُه من المراضِع بعد أمِّه صلى الله عليه وسلم بأسبوع ثُوَيْبَةُ الأسلميَّةُ مولاة أبي لهب؛ أرضعتهُ بلبن ابنٍ لها يقال له: مَسْرُوح. وكانت قد أرضعتْ قبلَه حمزةَ بنَ عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمةَ بنَ عبدِ الأسد المخزومي. وفي بني سعد، التمسَ عبدُ المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم المراضِعَ، واسترضعَ له امرأةً من بني سعدٍ بنِ بَكر، وهي حليمة بنت أبي ذُؤيبٍ عبدِ الله بنِ الحارث، وزوجُها الحارثُ ابنُ عبد العُزَّى المُكنَّى بأبي كَبْشَةَ مِن نفسِ القبيلة. وقد رأت من النّعَمِ والبركاتِ وفيضِ الخيراتِ وذَرِّ اللبَنِ ما لمْ تعهدهُ قبل رضاعتها للمصطفى صلى الله عليه وسلم. كما شهدَ أخوهُ من الرضاعةِ عندها معجزةَ شقِّ صدرهِ وغسلِهِ. تقول حليمةُ السعديةُ وقد ذَهبتْ بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد تمامِ الرَّضَاع، ثمَّ أعادتُه أمُّ الرسول معهم، تقول: “فو الله إنه بعدَ مَقْدَمِنَا به بشهرٍ مع أخيه، أتانا أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه: ذاكَ أخي القُرَشي قد أخذهُ رجلانِ عليهما ثيابٌ بِيضٌ، فأضجعاه، فشقَّا بطنَهُ، فهما يُسَوِّطانِهِ. قالت: فخرجتُ أنا وأبوه نحوَه، فوجدناهُ قائما مُنتَقَعًا وجهُهُ . قالت : فالتزَمتُه والتزمَهُ أبوه ، فقلنا له : ما لكَ يا بُني؟ قال : جاءني رجلان عليها ثيابٌ بيضٌ، فأضجعاني وشقَّا بطني، فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو . قالت: فرجعنا به إلى خِبَائِنا“. إذ ذاك خشيت عليه حليمةُ بعد هذه الوَاقعة حيثُ ردتْهُ إلى أمِّه، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين. وإلى تلك الحادثةِ الدالةِ في طفولته صلى الله عليه وسلم، يشير الإمامُ البوصيري بقوله:
شُقَّ عنْ قلبــِهِ وأُخـرِجَ مِنـــهُ مُضغةٌ عندَ غسلــهِ ســـوداءُ
خَتَمَتْهُ يُمنـــَى الأمينِ وقـــد أو دِعَ مــــا لمْ تـُـذَعْ لـه أنبــــاءُ
* * *