-اللمعة 11- فخرُ وبهاءُ ليلة مولده صلى الله عليه وسلم
فضيلة الأستاذ محمد التهامي الحراق
* * *
” صلى الله عليك وعلى آلك وسلم“
ها نحنُ نصلُ في هذه اللمعة إلَى ليلةِ المولدِ الكريم، ليلةِ انبجاسِ الفجرِ الأعظمِ، مشكاةِ الأنوارِ وسراجِ الهدايةِ. ليلة ٍعظيمةٍ، لعيدِ ولادةِ نبي عظيمٍ، ذي خُلُق عَظيم.
إضاءتنا التاريخية في هذه اللمعة إضاءةٌ للاحتفاء بهذه الليلة في الحاضر. ففي هذه الليلة، يَهُبُّ علينا، كلَّ عامٍ، عَبَقُ التاريخِ ونسيمُ الروحانية، ذلكَ أننا نعيشُ في مغربنا الراهنِ فصولاً رائعة من الاحتفالاتِ المولدية، والتي تمثلُ امتداداً رفيعاً لعناية رسميةٍ متوارَثةٍ بهذه المناسبةِ الروحيةِ الغراء. وفي مقدمة هذه الاحتفالاتِ ذاكَ المشهدُ الاحتفائيُّ الفريدُ في العالم الإسلامي، مشهَدُ الاحتفاءِ بليلةِ المولدِ النبويِّ الشريف، والذي يترأسهُ برونقِ وألقٍ أميرُ المومنين، حيثُ يَجلِسُ على البساط في رفعةِ المتواضعين، وعليه سِيمَا المُحبِّين، معه كبارُ رجالِ الدولة والعلمِ والشرفِ وسفراءُ مختلفِ البلاد الإسلامية، محاطاً بالذاكرين والمادحين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهُمِ يرددون بحضرتِه المُنيفَةِ، في جو ربانّي، وأفقٍ ذِكري مَلائكي، كلُّهُ خشوعٌ وهيبةٌ وجَمالٌ ومحبة؛ يرددون مدائحَ جِدِّه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويتغنَّونَ بشمائلهِ و خصائصهِ ومكارمهِ وسيرته؛ محفلٍ ديني يُنقَلُ عبرَ مختلفِ وسائلِ الاتصال ليُشِعَّ بمعانيهِ وإشاراتِهِ على العالم، وَاشجاً ببهاء بين الجلالِ والجمال، بينَ الروحانيةِ والاغتباط، بين الفرحِ والنُّسُك، بين الحُسْنِ والإحسان … وقد تعطرَّ المقامُ والحضورُ برفيعِ العودِ والبُخور، وازَّيَّنَ الفَضاءُ ببديع الفَرْشِ و وحدةِ الملبوسِ ونفيسِ الإهابِ و رائقِ الأنفاس .. أما الأصواتُ فكأنها مزاميرُ داوود، انتُخِبَ من مختلفِ جهاتِ المملكة أعذبُها وأرفعُها، وانتُقِيَ لها من بَهِيِّ الأنظامِ وشجيِّ الأنغام، ما به ترتحِلُ الأرواحُ عن أشباحِهَا، وتنسَكِبُ عبراتُ الهَنَا من مَحَاجرِهَا، وتنتشي الأفئدةُ طربا وحبوراً بمحبوبِهَا… فإذا انتهى المديحُ والإنشادُ تُليت آيٌ منَ الذكرِ الحكيم، وخَتم المجلسَ أميرُ المومنين بالصلاةِ على جده الصادقِ الأمين، ليتِمَّ تكريمُ وإكرامُ العلماءِ والشرفاءِ والشعراءِ والمُّدَّاحِ، وينصرِفَ الجمعُ مغتبطاً مسروراً، و قد أسهمَ الحاضرون باعتزازٍ وانشراحٍ في استدامةِ الأفراحِ، بهذا العيدِ النبوي الفاخرِ الأثير.
* * *
يا ليلةً عنْ كمالِ المجدِ مُسْفِرَةً مَنْ كانَ فيها النبيُّ المفردُ العَلَمُ
لكِ الفخارُ على الأيامِ أجمعِهَـا يا ليلةً لاحَ فيهَا الـفضلُ والكرَمُ
لقد نالتْ ليلةُ مولدِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، من المجدِ والفخارِ والسؤددِ ما صارت بهِ زمناً عظيماً لعظمة من ازداد فيه، بل صارَ مولدُهُ عيداً لبهاءِ وجلال ما عادَ بهِ على البشريةِ من هديٍ وهداية ٍو إخراجٍ للعالمين من الظلماتِ إلى النور. وُلد المصطفى، حسبَ ما وقع عليه إجماعُ الجمهور، فجرَ الثاني عشر من ربيعٍ الأول من عامِ الفيل. وقد رأى العلماءُ والعارفون أنه لم يولد في شهرٍ حرامٍ أو زمنٍ مُعَظَّمٍ كشهرِ رمضانَ، حتى لا يستمِدَّ هذا الموعدُ عظمَتَهُ من غير عظمةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم. ففخارُ ليلةِ مولدهِ من فخارِ المولودِ لا من غيرهِ. ولأجلِ ذلكَ اعتبَرَ المحبونَ يوم مولدهِ عيداً فقالوا:
المسلمــــونَ ثلاثـــةٌ أعيـــادهم الفطر والأضحــى وعيـدُ الـمولد
فإذا انقضت أفراحهم فسرورهم لا ينقضـــي أبــدا بــحبِّ محمَّـــدِ
هذا المعنى ذاتُهُ في تمجيد عيد المولد وتعظيم شأنه وشأوه باعتباره عيداً، هو ما تشير إليه وتزكيه حكايةٌ دالة جرت بين العالم الكبير ابنِ عباد الرَّندي والعارف الصالح سيدي أحمد بن عاشر دفينِ سلا؛ فقد ذكر ابنُ عباد رحمه الله «أنه خرجَ في يوم ميلاده عليه السلام إلى خارج البلاد، فوجد الوليَّ الصالح الحاج ابن عاشر رحمه الله مع جماعة من أصحابه، فاستدعوه لأكلِ الطعام، قال فاعتذرتُ بأني صائم، فنظر إلي الشيخ نظرة منكِرَة، وقال لي: إن هذا اليومَ يومُ فرح وسرور، فلا يستقيمُ فيه الصيام لأنه يومُ عيد».
هكذا إذن تتجلى المنزلة الرفيعة التي يتبوأها الفرح برسول الله صلى الله عليه وسلم والاحتفاءُ بليلة مولده، واتخاذُ يومِها عيداً؛ لدلالةِ ذلكَ على الشكرِ، وعلى المحبةِ، وعلى الاقتداء؛ دلالةٌ يقترنُ فيها التعلقُ بسنةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم والإقبالِ على سيرته وشمائلهِ وخصائصهِ، ببهجةِ التعلق والإقبالِ والتمسُّك، وفي ذلك دليل على صدق المحبةِ وصدق الإيمان.
ومحيا كالــشمس منك مضيء أســــفرت عنـــه ليلـــــة غــراء
ليلة المولد الــــذي كان للديـ ـن سرور بيــــــــومــه وازدهــــاء
وتوالت بشرى الهواتف أن قد ولــد الـمصطفــى وحقَّ الــهناء
فصل اللهم عليه وعلى آله وسلم، عددَ خلقكَ، ورضاَ نفسكَ، وزنة عرشكَ، ومدادَ كلماتك.
* * *